رأسمالية الكوارث: فيروس كورونا يجتاح أسواق النفط

برزت الأبعاد البيئية لجائحة كوفيد-19 بروزًا كبيرًا في النقاشِ العام مؤخرًا، بِعدّة مساهمات مهمة تنظر في الجائحة بعلاقتها بقطاع الزراعة التجارية الرأسمالية، وبالاضمحلال المتفشي للتنوع البيولوجي، ودمار الأنظمة البيئية، لكن عنصرًا آخرًا في «إيكولوجية» كوفيد-19 لم يتلقَّ الاهتمام الواسع الذي يستحق، وهو: طُرق تقاطُع الجائحة المتفاقمة مع صدمةٍ عميقة في القطاع النفط وتسريعها لهذه الصدمة. فأسواق النفط العالمية تمرُّ اليوم بتحوّل لا سابق له نتيجةً لهذه الصدمة، وإن كانت المتَّجهات على المدى الطويل مفتوحة الأفق، فهذه اللحظة ستشكِّل بلا شك سياسات النفط ومعها أفقُ تخفيف التغير المناخي لعقودٍ طويلة.

وَقَعَت دولٌ تمثّل أكثر من 90 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي تحت مختلف أشكال الإغلاق، في حين أغلقت أجزاء كبيرة من قطاعات الصناعة والنقل والتجارة العالمية؛ انخفض الطلب على النفط والمنتجات النفطية إلى أحد أدنى مستوياته التاريخية، بل يقدر أن انخفاضَ قيادة السيارات في الولايات المتحدة وحدها أدّى إلى انخفاضٍ قدره 5 بالمئة في الطلب العالمي على النفط – أي ما يعادل الانخفاض الذي سيحصل لو كفَّت أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط كلها عن القيادة. وقد قدّر المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية فاتح بيرول في 25 آذار/مارس أنَّ الطلب العالمي على النفط قد ينخفض بمقدار 20 مليون برميل لليوم، وبعد مراجعة أخرى وصل التقدير إلى 30 مليون برميل لليوم. إنَّ هذا الانهيار في الاستخدام العالمي للطاقة لا سابقة له لا في سرعته ولا في عمقه، فقد تجاوزَ كلَّ الأزمات الكبرى السابقة في القرن الماضي – حتى كساد 1929م والانهيار المالي العالمي لعام 2008م.

ومع تهاوي الطلب على الطاقة يبدو أن عرضَ النفط العالمي سيتزايد ازديادًا مهمًا بعد إعلانٍ في أوائل آذار/مارس بأن روسيا والسعودية سترفع القيود عن مستويات إنتاج النفط، وباجتماع هذه «الحرب النفطية» مع آثار الجائحة، دفعت أسعار النفط العالمي إلى أدنى مستوياته للعقود الماضية، مما أدى لتدافع المنتِجين لإيجاد أماكن تخزين للنفط على البر والبحر، بدلًا من البيع بخسارة، ومع استنفاد الطاقة الاستيعابية العالمية للمخازن، تتوقع بعض الشركات المتاجِرة بالنفط أن يصبح المنتِجُون هم من يدفعون الأموال للعملاء ليخلّصوهم منه. وقد ساقت كل هذه العوامل المحلِّلين إلى توقع رقمٍ قياسي من حالات الإفلاس ضمن شركات النفط في هذا العام، وهي احتماليةٌ قد تضع العديد من المصارف والمؤسسات المالية في خطر يذكّر بـ 2008م.

لكن ما معنى هذه الصدمة القارصة لأسواق الطاقة بالنسبة إلى مستقبل القطاع النفطي وإمكانات إنهاء الاتكال على النفط؟ يأمل بعض المعلِّقين أن هذا الحدث قد يكون الجانب الإيجابي الخفي في سياق كارثة كوفيد-19 – فالجائحة قد «تقتل قطاع النفط وتساعد على إنقاذ المناخ» كما أعلن عنوان صحيفة الغارديان البريطانية في الأول من نيسان/أبريل، مع مصرع العديد من المنتجين الصغار للنفط وإضعاف الشركات الكبرى مثل إيكسون موبل وَرويال دتش شيل وَبي بي، مما يقرّبنا من النقلة إلى ما بعد النفط.

لكن هذه السيناريوهات الزهرية تميل لتجريد واقع رأسمالية الكوارث الملتحمة باستخراج النفط واستغلاله، ورأسمالية الكوارث هذه هي ما أدمج الشركات النفطية الكبرى بعمقٍ في كل أوجه حياتنا. ومثل كل لحظات التغيّر المفاجئ، فالمسار الذي سنسلك للخروج من هذه الأزمات المتعددة المتقاطعة – انهيارُ أسعار النفط، والانهيار الاقتصادي الحاد، والجائحة الفيروسية – مرهونٌ بقدراتنا على بناءِ بدائل سياسية لرأس المال النفطي. علينا أن نتنبّه للفائزين والخاسرين المحتملين من هذه اللحظة، وأن نتجنب الخلط بين مساواة الانهيار المؤقت (والحاد) للاقتصاد المستند إلى النفط و(بين) مصرع المنظومة نفسها.

النفط الشرق الأوسطي، والروسي، والأمريكي

وراءَ صعود الرأسمالية العالمية المتمركزة حول النفط قصّةٌ معقدة وطويلة، تشمل إزاحة الفحم لصالح النفط في بواكر القرن العشرين، وصعود منتجي النفط في الشرق الأوسط (بقيادة السعودية) أثناء فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعددًا من الحروب والثورات، وتذبذبات مهولة في الأسعار العالمية للنفط في السبعينيات والثمانينيات، ونقلات كبرى في بنى القطاع النفطي العالمي. ومن الجدير بالذكر أن هذا التاريخ يرتبط في مركزه بالقطاع المالي الدولي الذي نمى بعد الحرب – وهذه الحقيقة تُغفَل في السرديات المُفرِطة في التركيز على النفط كسلعة مادية. فَقد أدّت تَدفُّقات ما يسمى بـ «البترودولار» دورًا جوهريًا في انبثاق الأسواق المالية العالمية (مثل السوق الأوروبية) من الستينيات فطالعًا، وصعود الهيمنة المالية الأنجلو-أمريكية، وما تتسم به العلاقات بين بلدان الجنوب والشمال من أنساق تبعية الديون مستمرة. الخلاصة هي أنَّ النفط بات متخلِّلًا كل أوجه الرأسمالية العالمية مع انتهاء القرن العشرين.

وابتداءً ببواكر الألفية الجديدة، تصاعدت أسعار النفط العالمية تدريجيًا على ظهر ازدياد الطلب العالمي المرتبط بصعود الصين، وقد انخفضت أسعار النفط انخفاضًا حادًا في 2008م مع الأزمة الاقتصادية العالمية، وسرعان ما عاد الطلبُ لمسارٍ التصاعدي وَوَصل إلى قمته في 114 دولار للبرميل في منتصف 2014م. شكَّلت تلك الفترة نعمةً مالية لأغلب الدول المصدِّرَة للنفط في الشرق الأوسط (وكان لذلك تداعياتٌ كبرى على الديناميات السياسية في منطقة الشرق الأوسط الأوسع)، ولم يستثنى من الانتفاع فترة الأسعارِ المرتفعة مُنتِجو النفط الصغار في مختلف أرجاء العالم، وأهمُّ منفعة كانت الحافز الضخم في فترة ارتفاع الأسعار الطويلة للاستثمار لتطوير ما يسمى بإمدادات النفط والغاز «غير التقليدية» – احتياطاتٌ استخراجها أصعب وأغلى بكثير من النفط التقليدي.

وما يهمّنا هنا تحديدًا هو النفط الصخري الأمريكي، وهو نفطٌ خام مخزّن في الصخور الزيتية والصخور الرملية قليلة النفاذية، يُستخرَج عادةً عبر تكسير الصخور بالسائل المضغوط. تتنوع الطرائق لحساب عتبة الربح لإنتاج النفط الصخري، والرقم يختلف باختلاف الحقول النفطية والأسعار السائدة للتكنولوجيا والعمالة والضرائب وهلم جرًّا – لكن الرقم الأكثر انتشارًا يفيد بأن أغلب منتجي النفط الصخري في أمريكا يلزمهم سعر 45 دولارًا أو أكثر لتحقق ربحًا. وبالمقابل، يكلّف إنتاج النفط السعودي حوالي 4 دولارات للبرميل والنفط الروسي 10 دولارات للبرميل. لكن يجب تجنب المغالطات في تفسير هذه المقارنات، فالسعودية وروسيا دولٌ لا شركات، وهي تعتمد بشدة على إيرادات النفط والغاز لتلبية احتياجات الميزانية؛ بهذا المعنى، «عتبة الربح» للنفط بالنسبة لهذه الدول أعلى بكثير وتتذبذب وفق مستويات الإنفاق الحكومي. لكن الواقع هو أن أسعار النفط العالمية لغالبية أول عقدين للألفية الجديدة ساعدت بلا شك على جذب الاستثمارات الكبرى لتطوير قطاع النفط الصخري ونشّطت تحسينًا مهمًا في تكنولوجيا الاستخراج لهذه الإمدادات غير التقليدية.

شكل ذلك بالطبع كارثة بيئية واجتماعية مطلقة استندتَ أساسًا على التوظيف المتكرر لعنف الدولة ضدّ السكان الأصليين في الولايات المتحدة (وكندا) لإفساح الطريق لخطوط إمداد الأنابيب وغيرها من البنى التحتية، لكن النتيجة كانت طفرةً مبهرة في إنتاج النفط المحلي الأمريكي، فما بين 2009 و2014م، تضاعف إنتاج الزيت الصخري الأمريكي ثلاث مرّات، مُرقَّيًا الولايات المتحدة إلى أعلى مراتب الدول المنتجة للنفط عالميًا، حتى غدت الولايات المتحدة في بواكر 2011م مصدّرة صافية للنفط وفي 2013م احتلت المكانة السابقة للسعودية كأكبر منتج للنفط عالميًا – وهو موقعٌ حافظت عليه حتى يومنا هذا، بما يخالف تمامًا التوقعات المذعورة حول «تبعية الطاقة» التي شابت النقاشات المعنية بالسياسات في الولايات المتحدة في مطلع الألفية الجديدة.

أوبيك+ وحرب أسعار النفط لـ 2020م

لكن الزيادة الضخمة في الموجودات الناجمة عن هذا الإنتاج الأمريكي الإضافي – ومعها تخفيف الطلب الصيني على الطاقة، واقتصاد عالمي مُرَشْرِش، ونقلةٌ نحو استخدامٍ أوسع لمصادر الطاقة المتجددة – أتت بنهاية فترة الأسعار العالمية العالية للنفط في منتصف 2014م، فسعرُ خام برنت انخفضَ بنسبة 70 بالمئة في 2015م، مما أوصله إلى حوالي 30 دولار للبرميل في بدايات 2016م، فكان هذا الانهيارُ الانهيارَ الأكبر في أسعار النفط لثلاثة عقودٍ مضت، ومرَّت الولايات المتحدة بأول انخفاضٍ في الإنتاج النفطي السنوي منذ 2008م، وأفلست العديد من الشركات الصغيرة وذات المديونية العالية – ولعامِ 2015م، قدَّرت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن مجموع خسائر الشركات المنتجة للنفط داخليًا والمتداولة علنًا بلغت 67 مليار دولار.

لم يكن منتجو النفط الأمريكيون وحدهم من تضرروا من انخفاض الأسعار لعامي 2014-2016م، فكافة كبار الدول المصدِّرَة للنفط واجهت عجزًا في الميزانية متناميًا واستنزافًا للاحتياطيات، بمن فيها السعودية التي استنزفت أكثر من ثلاث احتياطياتها الأجنبية ما بين ذروة سعر النفط في 2014 ونهاية 2016م. وفي وجه هذه الضغوط المالية، اتخذت اثنتان من الدول الرائدة في إنتاج النفط – روسيا والسعودية – خطواتٍ لتعزيز أسعار النفط العالمية عبر سلسلة من الاستقطاعات المنسَّقة للإنتاج؛ رُسِّمَ هذا التحالف الفعلي باتفاقية مشتركة، أطلق عليها عرفًا مسمى أوبيك+، عقدت بين بلدان منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبيك) وإحدى عشر بلدًا خارج المنظمة في كانون الأول/ديسمبر 2016م. وحتى انحلالها في بواكر آذار/مارس لهذا العام، نجحت أوبيك+ فعلًا في الحفاظ على سعر النفط في المدى الضيق بين 50 و80 دولارًا.

كان اتّفاق أوبيك+ مثمرًا للغاية بالنسبة لشركات النفط الأمريكية – التي لم تكُن ملزمةً بأيٍّ من هذه الاتفاقيات الدولية. ففي عشية انهيار الأسعار في 2015م مرَّ القطاع النفطي الأمريكي بموجةٍ من عمليات الدمج والإفلاس، وَعمِلَ تأمين أسعار نفط عالية نسبيًا على إنعاش الاستكشاف والإنتاج المحلّييْن، حتى وصل إنتاج النفط اليومي في كانون الثاني/يناير 2020م إلى 12.7 مليون برميل، أي زيادةٌ بنسبة 45 بالمئة تقريبًا منذ كانون الأول/ديسمبر 2016م وانطلاقًا من أقل من 5 ملايين برميل يومًا في 2008م. تبين هذه الأرقام على نحوٍ صارخ أنَّ شركات النفط الأمريكية، على العكس من أغلب البلدان الكبرى المنتجة للنفط التي سعت للحد من مستويات الإنتاج امتثالًا لأوبيك+، كانت لديها حرّية زيادة مستويات الإنتاج دونَ عراقيل، فكما أشار كيث جونسون في فورين بوليسي يومَ 27 آذار/مارس: «لَم تُضِف أي بلادٍ نفطًا إلى التخمة العالمية في السنوات الأخيرة مثلما أضافت الولايات المتحدة – ورغمَ الانهيار الأخير في سعر الخام، ما زال المنتجون الأمريكيون يزيدون مخرجاتهم».

لكن قُدِّرَ لتحالف أوبيك+ لأن يتفكك في 6 آذار/ماس هذا العام بعد رفضِ روسيا دعوةً من أوبيك لتخفيض آخر لإنتاج النفط عالميًا بمقدار 1.5 مليون برميل يوميًا. والحال لم تكن أنَّ روسيا رفضت طلب أوبيك حسب، بل أعلنت أنها لن تواصل التزامها باتفاقية كانون الأول/ديسمبر 2016م الأصلية. كان ردُّ السعودية السريع على هذا القرار، في 8 آذار/مارس، على هيئةِ إعلان صارخ بأنَّ المملكة لم تعد ملتزمة بحدود الإنتاج المتفاوَض عليها، وستسعى لزيادةِ إمداداتها النفطية إلى 12.3 برميل يوميًا في نيسان/أبريل (من أصل 9.7 مليون برميل يوميًا في آذار/مارس)، تتبعها زيادةٌ أخرى في طاقتها الإنتاجية إلى 13 مليون برميل يوميًا حالما أمكن ذلك. ومع توقّع إغراق الأسواق النفطية العالمية بِعدّة ملايين إضافية من البراميل يوميًا، انخفضَ سعر المعيار الدولي الرئيس للنفط، خام برنت، بنسبة تفوق 30 بالمئة خلال 48 ساعة، وانهارت معه أسواق الأسهم العالمية، حيث انخفض المعدل الصناعي لداو جونز برقمٍ قياسي قدره 2000 نقطة في 9 آذار/مارس، وهو أكبرُ انهيارٍ جرى في يوم واحد في تاريخه.

ما يزال دافعُ قراري روسيا والسعودية لترك أوبيك+ مبهمًا، فبعض المراقبين راحوا إلى أن روسيا لربما تسعى للانتقام من العقوبات الأمريكية التي فُرِضَت على أكبر شركة نفط روسية، روسنيفت، في شباط/فبراير، ويذهبُ آخرون إلى أنَّ قرار روسيا يجب أن يُفْهَم في سياق المشهد السياسي الداخلي، حيثُ يسعى بوتين إلى تنميةِ التأييد في أوساط النخب الروسية المرتبطة بالقطاع النفطي التي عارضَت أوبيك+ منذ أمد، وغيرهم من المحللين وصفوا أفعالَ روسيا والسعودية بـ «مثال واضح على نظرية اللعبة»، ترقَّباه كلا البلديْن تمامًا قبل إعلانات آذار/مارس.

مهما كانت العوامل الظرفية المباشرة، فالدافعُ الاستراتيجي على المدى الطويل وراءَ قراري روسيا والسعودية واضح، فقد شهدتا لعدة منتجي النفط الأمريكيين يوسّعون حصّتهم من السوق على حسابيهما لعدم وجود أي عراقيل على حدود الإنتاج. فبتهديدها إغراق العالم بالنفط (وهنا يؤدي فعلُ السعودية دورًا حاسمًا، لقدرتها الاستثنائية على الزيادة السريعة للطاقات الإنتاجية) ينخفض سعر النفط انخفاضًا معتبرًا، وفي حين ستحتاج السعودية وروسيا لتحمل آلامِ أسعار النفط المنخفضة لعدة سنوات، فمنتجو النفط الأمريكيون ذوو التكاليف العالية سَيُدفعون إلى الفناء.

حرب أسعار النفط تلتقي بكوفيد-19  

ومع ذلك، في الأيام التي تلت صدمة العرض الهائلة لأسواق النفط العالمية، اتّضح بسرعة أنَّ ضربةً أقوى بكثير ستصيب أسعار النفط نتيجة انتشار كوفيد-19 المتزايد خارج الصين. وبالنسبة لمنتجي النفط، أدى تسونامي سحق الطلب إلى مفاقمة آثار الإعلانيْن السعودي والروسي إلى حد كبير، وهبطت أسعار النفط حتى أقل من العشرة دولار للبرميل. وبحلول 29 آذار/مارس، انخفض سعر المعيار الأمريكي، خام غرب تكساس الوسيط، بنسبة أكثر من 60 بالمائة منذ بداية العام، حيث وصل سعره إلى أقل من 20 دولار للبرميل، وهو أدنى مستوى له منذ 18 عامًا، وانخفض المعيار الدولي، خام برنت، إلى 23.03 دولارًا للبرميل، وهو أدنى مستوى له منذ عام 2002م، والأهم من ذلك أن هذه الأسعار المرجعية لا تعكس غالبًا السعر الحقيقي الفعلي الذي يكلفه برميل النفط في السوق العينية – حيث أفادت الشركات التجارية أن بعض أنواع النفط تباع بسعر 8 دولارات للبرميل. وَوَسط توقّعاتٍ بانخفاض السعر إلى 10 دولارات للبرميل، بدأت شركات النفط بخفض الإنفاق على الاستكشاف الإضافي، وإنشاء منصات الحفر، والمصروفات الرأسمالية.

في مواجهة هذه الأسعار الشديدة الانخفاض، يسعى منتجو النفط جاهدين لتخزين نفطهم على أمل تحقيق ربح عندما ترتفع الأسعار في وقت ما في المستقبل، ومع ذلك، فالمشكلة هي أن مساحة التخزين محدودة للغاية (خاصة على البر)، وتضافُ إلى ذلك مشكلة التكاليف اللوجستية والتقنية المعنية بِنَقل النفط إلى مواقع التخزين الآمنة. قدّر المحللون أن حوالي ثلاثة أرباع السعة التخزينية في العالم مستخدمة أصلًا، وستصل الطاقة الاستيعابية أقصاها بحلول نهاية آذار/مايو. وكانت شركات خطوط الأنابيب الرائدة في الولايات المتحدة بحلول منتصف آذار/مارس تشعر بالقلق من أن منتجي النفط قد يحاولون استخدام البنية ​​التحتية لهذه الشركات لتخزين النفط بدلاً من نقله، ولذلك غدوا يُصرِّون على فاتورة الاستلام النهائي قبل القبول بأي إمدادات نفطية جديدة. وبسبب الكلفة العالية لإغلاق آبار النفط أو حتى إيقافها مؤقتًا (فعقود إيجار الأراضي تتضمن في بعض الأحيان بنودًا تلزم باستمرار الإنتاج)، فقد تُفضِّل شركات النفط تسليم منتوجها دون ربحٍ بدلاً من التوقف عن العمل؛ في الواقع، في منتصف آذار/مارس، كان التجار يتقدمون لشراء وايومنغ الحامض الأسفلتي (المستخدم غالبًا لإنتاج البيتومين) بسعر سالِب 19 سنتًا للبرميل، أي أنّهم فعليًا يطلبون من المنتجين تعويضًا مقابل تخليصهم من هذا النفط.

كل ذلك يمثل ضغوطًا هائلة تؤثر على كامل سلسلة قيمة النفط، من منتجي النفط الخام (الشركات والدول) حتى التكرير وصناعة البتروكيماويات. يكاد الإفلاس الشديد وإغلاق آبار النفط يكون مؤكدًا في الأسابيع التالية، ومن المرجح أن يركد الإنتاج لدى أولئك المنتجين الذين يعتمدون على أسعار النفط المرتفعة نسبيًا، مثل الشركات الأمريكية والكندية المتخصصة بإنتاج النفط الرملي1لنفط الرملي (أو الرمال النفطية أو الرمال القطرانية): هو نوع من ترسبات البتومين. وهو مزيج طبيعي من الرمال أو الطين والمياه ونوع كثيف ولزج من النفط يعرف بالبيتومين. وهو موجود في أماكن مختلفة من العالم إلا أنه موجود بكميات تجارية ضخمة في كندا وفنزويلا. والنفط الصخري، بل وقد تأكَّدت هذه التوقعات في المسح الاستقصائي الشهري للنفط والغاز لمصرف الاحتياطي الفيدرالي في مدينة دالاس في آذار/مارس، حيث أفاد المستجوَبون من ملّاك المصانع أن أُفق «صناعة النفط والغاز المحلية لم يسبق أن وصلت لهذا البؤس» – كانت «عاصفة كاملة من الكوارث» و «أسوأ عملية إعادة تعيين لأسعار الطاقة في العمر».

النفط والمال

لكن التعرف على المسارات المحتملة لهذا الانهيار الذي يقوده الوباء يتطلب فحصًا دقيقًا للروابط بين قطاع النفط والاقتصاد بشكل عام. الأمر الحاسم هنا هو الترابط العميق بين الشركات المعنية بالطاقة والأسواق المالية، وهذا الارتباط أكثر وضوحًا في الولايات المتحدة، حيث أصبحت شركات الطاقة مستدينة للغاية خلال السنوات الأخيرة، وكمٌّ كبير من سندات الديون الصادرة عن هذه الشركات قد صُّنِفَ دون درجة الاستثمار – والأمر لا يقف عند منتجي النفط الخام، بل يشمل شركات خدمات حقول النفط، ومصافي التكرير، وشركات أخرى «وسيطة» مثل شركات خطوط الأنابيب. ومن اللافت للنظر أن شركات الطاقة كانت المُصْدِرَ الأكبر لـ «السندات الرديئة» في الولايات المتحدة خلال 10 أعوام من أصل 11 عامًا مضت، وتشكل الآن أكثر من 11 في المائة من سوق السندات الرديئة الأمريكية. وتتفاقم المشكلة بالكم الهائل من الديون غير المضمونة (الديون التي لا تدعمها أي ضمانات) لشركات الطاقة الأمريكية؛ تجاوز هذا الرقم مستويات الديون المضمونة لأول مرة في عام 2016م، حيث وصل إلى 70 مليار دولار في كانون الأول/ديسمبر 2019م، مرتفعًا من مليار دولار واحد فقط في عام 2015م.

ومع انهيار الطلب في أعقاب كوفيد-19 – وازديدا حدة الانهيار بقرار روسي/سعودي لزيادة مستويات الإنتاج – تواجِهُ العديدُ من الشركات المرتبطة بالطاقة انخفاضًا وشيكًا لتصنيفاتها المالية. قدّرَ يو بي إس جروب في 16 آذار/مارس أنَّ ما يصل إلى 140 مليار دولار من السندات الصادرة عن شركات الطاقة الأمريكية معرضة لخطر أن تصبح «ملائكة ساقطة» – أي أن تصبح دون في درجة الاستثمار. ونظرًا لهبوط درجة هذا الدين إلى طبقة السندات الرديئة، فإن العرض المتزايد سيعمل على خفض أسعار السندات مع زيادة عائداتها (الفائدة المدفوعة على السند، وحركتها عكسية نسبةً إلى السعر في حالة السندات). وإحدى النتائج المحتملة هي أزمة السيولة لا تقف عند ما تعاني منه شركات الطاقة في العثور على مشترين لديونها – وهي بحد ذاتها مشكلة حرجة لأن على الكثير من الشركات إعادة التفاوض على الديون في هذا العام – فهذه الشركات ستضطر أيضًا إلى دفع أسعار فائدة أعلى بكثير على سنداتها.

لا شكَّ أنَّ النتيجة النهائية هي زيادة حادة في حالات الإفلاس وسط شركات الطاقة الأمريكية هذه خلال عامي 2020 و2021م. وبالفعل، وقعت أولى هذه الخسائر في الأول من نيسان/أبريل مع لجوء أكبر شركة نفط مستقلة في شمال داكوتا – وهي ثاني أكبر ولاية منتجة للنفط في الولايات المتحدة – وايتنغ بتروليوم إلى تسجيل الإفلاس بموجب الفصل 112الفصل 11 (القانون الأمريكي): شكل من أشكال الإفلاس الذي ينطوي على إعادة تنظيم شؤون المَدين التجارية وديونه وأصوله. ويطلق عليه اسم الفصل 11 نسبةً إلى اسم قانون الإفلاس الأمريكي رقم 11 الي نُظِّمَ للشركات التي تحتاج إلى وقت لإعادة هيكلة ديونها، ولمنح المَدين بداية جديدة، إلّا أن ذلك يكون مرهونًا بوفاء المَدين بالتزاماته بموجب خطة إعادة التنظيم، وبما أن هذه الحالة من التغطية المالية هي أكثر الحالات تعقيدًا من بين حالات الإفلاس عمومًا، والأعلى ثمنًا، فإنه لا يجب على الشركة النظر في الفصل 11 من إعادة التنظيم إلا بعد إجراء تحليل دقيق واستشكاف جميع البدائل الأخرى المتاحة من قانون الإفلاس الأمريكي. حملت وايتنغ أكثر من 2.8 مليار دولار من الديون في دفاترها، وقبل أيام قليلة من لجوئها إلى الفصل 11 مَنَح كبارُ المدراء التنفيذيين أنفسهم 14.6 مليون دولار كمكافآت، وانتهى الرئيس التنفيذي للشركة بدفوعات مباشرة وَفورية قدرها 6.4 مليون دولار – أكثر بكثير من حظوظ ثلث القوى العاملة في الشركة الذين فُصِلوا في تموز/يوليو الماضي. من شبه المؤكد أن وايتنغ بتروليوم ليست إلّا الأولى في موجة قادمة من إفلاس شركات الطاقة. وفي الواقع، قدّرت شركة رايستد إينرجي في 3 نيسان/أبريل أنه إذا استمر سعر النفط تحت 20 دولارًا للبرميل، سيدفع ذلك أكثر من 500 شركة إلى تسجيل الإفلاس عبر الفصل 11 خلال عاميّ 2020 و2021م، وهو أكبر عدد من هكذا إفلاسات في التاريخ الحديث.

وقد تؤدي حالات التخلف عن السداد الديون إلى زعزعة خطيرة لاستقرار أجزاء أخرى من النظام المالي. فصناديق المعاشات وشركات التأمين والبنوك والمؤسسات المالية الأخرى تحتفظ بكميات كبيرة من ديون الطاقة، وقد تتعرض للخطر في حالة حدوث موجة كبيرة من حالات التخلف عن سداد الشركات – فالبنوك الأمريكية المحلية الصغيرة، على وجه الخصوص، حساسة جدًا لتقلّبات قطاع الغاز والنفط. وشهدت السنوات الأخيرة أيضًا انتشارًا واسعًا لممارسة تأمين قروض الشركات عالية المديونية – أي تجميع عدد كبير من قروض الشركات الخطرة التي تباع بعد ذلك كأوراق مالية تعرف باسم التزامات القروض المضمونة. وعلى الرغم من صعوبة تصنيف التزامات القروض المضمونة حسب القطاع أو تحديد من يحملها بدقة، إلا أن موجة من حالات التخلف عن السداد وسط شركات النفط والغاز قد تتراكم من خلال الأسواق المالية، على منوال الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري في عام 2008. وهذا الاعتماد المتبادل مع الأسواق المالية بالطبع لا ينفرد به القطاع النفطي لكنَّ القطاع بارزٌ بشكل صارخ بين الألغام المحتملة المنتشرة في الأسواق المالية اليوم، فالكمّيات العالية للغاية للديون غير المضمونة، وتضخّم كافة فئات السندات الرديئة فيها والديون المتعثرة، والصدمة الشديدة التي يسببها انهيار أسعار النفط تتضافرُ جميعًا لتجعل هذا القطاع مرشحًا محتملًا لنشر ضغوط مالية شديدة في أنحاء أخرى من الاقتصاد العالمي (بما يشابه إلى حد كبير قطاع العقارات في 2008-2009م).

الفائزون والخاسرون . . . والمناخ

من المؤكد أن جميع أطراف القطاع النفطي ستواجه أزمة شديدة خلال الفترة المتبقية من هذا العام وحتى عام 2021م، ولكن ما هي إمكاناتُ ذلك بالنسبة لمستقبلنا الإيكولوجي؟ لسوء الحظ، ما لم نتمكّن من مواجهة رأس المال النفطي بشكل فعال الآن، فإن السيناريو المحتمل هو أن موجة كبيرة من حالات الإفلاس في قطاع الطاقة، في الواقع، ستعجّل بتركُّزٍ أكبر لسيطرة كبار شركات النفط الكبرى، فالشركات «الست الكبار» – إكسون وشيل وبي بي وحفنة أخريات – في وضع أفضل من المنتجين الصغار، بما يمكّنها من الخروج حيّةً من هذه الأزمة، على العكس من تلك الصغيرة. وتلك الشركات الكبرى تميل إلى التحول لشركات متكاملة عموديًا – أي: أن تكون نشطة على كامل امتداد سلسلة قيمة الطاقة، بما في ذلك التكرير – وبالتالي ستُعَوَّض بعض خسائرها في إنتاج النفط الخام من خلال انخفاض تكلفة مدخلات الوقود لعملياتها النهائية. ولأنها شركات عالمية حقيقية فلديها احتياطيات وأصول موزعة في جميع أنحاء العالم، وليس فقط في حقول النفط الصخري الأعلى تكلفة في الولايات المتحدة. أما من الناحية المالية، فهذه الشركات تملك عادةً موارد وثرواتٍ طائلة، وتتشابك آفاقها بعمق مع الأسواق المالية الأوسع (بما في ذلك صناديق التقاعد)؛ في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، تمثل بي بي وشيل خُمس كامل إيرادات فوتسي.

هذا السيناريو هو بالضبط السيناريو الذي تتوقع الشركات المالية الرائدة أن يحدث خلال الإثني عشر إلى ثمانية عشر شهرًا القادمة. على سبيل المثال، أشارت غولدمان ساكس مؤخرًا إلى أنَّ نتيجة الأزمة الحالية المحتملة هي أن «الستّ الكبار ستعملن على تعزيز أفضل الأصول في القطاع والتخلص من الأسوأ . . . وعندما يخرج القطاع من هذا الانكماش الاقتصادي، سنجدُ فيما تبقى عددًا أقل من الشركات ذات الأصول عالية الجودة»، ولا شك أنَّ الأزمة «ستغير موازين اللعبة في هذا القطاع». وتعكس الخلافات داخل القطاع النفطي حول دعم الدولة لقطاع النفط الصخري المتعثر في الولايات المتحدة هذا السيناريو المحتمل. ففي هذا السياق، كما يوثق جستن ميكولكا بدقة، سعت شركات النفط الكبرى مثل إكسون إلى تعجيل انهيار المنتجين الصغار، وعارضت بشدة أي دعم من الدولة لقطاع النفط الصخري. يستشهد ميكولكا بالرئيس التنفيذي لشركة صخرية واحدة، بيونير للموارد الطبيعية، الذي أخبر قناة سي إن بي سي أن الجهود المبذولة لإشراك إدارة ترامب في دعم منتجي النفط الصخري لا تسير على ما يرام، لأننا «نواجه معارضة من شركة إكسون التي تسيطر على معهد البترول الأمريكي وجمعية النفط والغاز في تكساس . . . فهي تفضّل إفلاس كل الشركات المستقلة والبناء على بقاياها».

لهذا السبب، تمثل اللحظة الحالية خطرًا حقيقيًا على حملات العدالة المناخية، ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، وافقت إدارة ترامب على إرخاء قوانين حماية البيئة لصالح محطات الطاقة والمصانع والمنشآت الصناعية الأخرى – مما يسمح بشكل أساسي لهؤلاء الملوثين بالاكتفاء بـ «الرقابة الذاتية» على مستويات التلوث الخاصة بهم، وفقًا لتقرير صدر حديثًا في نيويورك تايمز. وقد طبَّقت هذه السياسة الجديدة وكالةُ حماية البيئة كجزء من معالجة أزمة كوفيد-19، ولكن من الواضح أنها كانت أيضًا أحد المطالب الرئيسة لمعهد البترول الأمريكي في رسالة أرسلتها لوبيّات شركات النفط الكبرى إلى إدارة ترامب في 20 آذار/مارس. وليس قطاع النفط وحده من يحاول استخدام هذه الأزمة لإبطال القوانين البيئية، فكبار المصارف والشركات المالية تضغطُ أيضًا لأجل إرخاء متطلبات الإبلاغ عن آثار نشاطاتها المحتمل على تغير المناخ وتأخير «اختبارات الإجهاد» لتقدير تلك الآثار.

وهذا السيناريو الذي يتضمن تقويض القوانين والتشريعات البيئية – غير الكافية بالأساس – وموجةً من دمج القطاع، سيضع، في نهاية المطاف، الشركات الست الكبار في مكانةٍ أفضل للاستفادة من عالم ما بعد الفيروس. وبينما أسعار النفط اليوم عند مستويات منخفضة تاريخيًا، فإنها لن تبقى كذلك على المدى الطويل. وإحدى العواقب الحاسمة للانهيار المهول للطلب على النفط اليوم تتمثل في إعلان معظم شركات النفط الرائدة عن تخفيضات وحشية في النفقات الرأسمالية على التنقيب عن النفط وتطوير المشاريع. وبالنسبة لشركات النفط الكبرى بلغ متوسط ​​التخفيضات الأولية حوالي 20 في المائة خلال الأسابيع القليلة الماضية، والنسبة أعلى في قطاع الزيت الصخري، حيث تتوقع إحدى المؤسسات الاستشارية انخفاضًا بنسبة 40 في المائة في الإنفاق بحلول عام 2020م. وإعادة تشغيل إنتاج النفط أو الشروع بعمليات إنتاج نفطي مستجدة بعد توقف المشاريع أو إغلاق آبار النفط ستستغرق وقتًا طويلاً وتستلزم مصاريفًا معتبرةً، ولهذا السبب فآثار تخفيضات اليوم على النفقات الرأسمالية ستُشعَر في تقييد العرض شعورًا مستمرًّا لبعض الوقت، مما يخلق إمكانية مرجّحة لارتداد حاد للأسعار مع خروجنا من هذه الأزمة – وهي نتيجة من شأنها تحفيز موجة متجددة من الاستثمار والتوسع النفطي على مستوى العالم (كما حدث في التاريخ الحديث لإنتاج الولايات المتحدة من النفط الصخري).

ما هي انعكاسات ذلك على خارج الولايات المتحدة وعلى الثروات الكبرى لشركات النفط الضخمة المتنوّعة الأنشطة على مستوى عالمي؟ في الإجابة على هذا السؤال نحتاج إلى التمييز بين الدول المنتجة للنفط القوية ومصدِّري النفط الفقراء، فلا مجال للشك في أن دول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودول الخليج الأخرى ستواجه عجزًا متزايدًا وضغوطًا أكبر على الإنفاق الحكومي بسبب الفترة الطويلة من انخفاض أسعار النفط، لكنَّ مستويات الديون القائمة لهذه الدول منخفضة نسبيًا، ويمكنها الاقتراض بتكلفة منخفضة إلى حد ما في الأسواق الدولية، كما أن البنية الطبقية الخاصة في الخليج – المعتمدة اعتمادًا مهولًا على العمال المهاجرين ذوي الإقامة المؤقتة الذين يشكلون أكثر من 50 بالمئة من القوى العاملة فيه – تعني أن أي انكماش اقتصاديٍّ حاد يمكن أن يُزاحَ جزئيًا ويُجتاوَز ببساطة عبر إعادة العمال المهاجرين إلى أوطانهم (كما حدث في دبي في بعد أزمة 2008م). والواقع يتشابه جدًا مع احتمال توطيد قوة «الستّ الكبار» من خلال هذه الأزمة، فمن الممكن أن يُعزَّز موقع دول الخليج أكثر إذا أصبحت الأصول في الدول المجاورة متاحة بسعر أرخص في عالم ما بعد الفيروس. وإحدى الأسواق الهامة في هذا السياق هي الهند، حيث تواصل الشركات التي مقرّها في الخليج تحقيق تقدم كبير متوقّعةً طفرة في الطلب على الطاقة في المستقبل. ومن المهم أيضًا تسليط الضوء على الإدراج الاستراتيجي للخليج في الشبكات التجارية والمالية المرتبطة بالصين، فلا يزال النفط الخام والبتروكيماويات محوريًا في هذه الروابط، والعمل على المشاريع الرئيسة في هذه القطاعات مستمرٌّ طوال الأزمة الحالية (مثل مصفاة الرويس في أبو ظبي، التي ستكون عند انتهائها أكبر مصفاة ومصنع بتروكيماويات مندمجيْن في العالم).

وسيواجه مصدِّرو النفط الآخرون الأفقر، مثل الإكوادور وفنزويلا وإيران، مشاكل أخطر نتيجة الهبوط الحالي في أسعار النفط، والأخيرتان تعانيان أيضًا من العقوبات الوحشية من الولايات المتحدة، وستجد دول مثل نيجيريا – التي تعتمد على النفط في 57 في المئة من الإيرادات الحكومية وأكثر من 90 في المئة من عائدات النقد الأجنبي – صعوبة بالغة في تلبية متطلبات الميزانية، وهي مشكلة عواقبها المحتملة مميتة في خضم الوباء الحالي. والحال لا يختلف بالنسبة للعراق، حيث تشكل صادرات النفط 90 في المئة من الإيرادات الحكومية وتعتمد نسبة كبيرة من السكان على القطاع العام للحصول على الأجور أو المعاشات التقاعدية، ومن الصعب رؤية كيف سيُعالَج النقص المتوقع في التمويل. وعلى الرغم من كل ذلك، فالمشاكل التي تواجهها هذه البلدان لا يمكن أن ترمى مسؤوليتها الكاملة على عاتق انخفاض أسعار النفط، فَتَرِكات الاستعمار المستمرة ودمارُ الحروب والاحتلال بقيادة الغرب وعلاقات الديون والتبعية التي تربط هذه البلدان بمراكز الاقتصاد العالميِّ من اللازم وضعها جميعًا في مقدمّة أولويّات ما يجب التصدي له لمعالجة هذا الوباء. فقد تعتمد نيجيريا، على سبيل المثال، على النفط للحصول على نسبة كبيرة من الإيرادات الحكومية، لكن أكثر من نصف هذه الإيرادات تنفق ببساطة على خدمة الديون الخارجية الحالية. فأي محاولة إذن لتجاوز الاعتماد على النفط، على المستوى العالمي، يجب أن تتحدى هذا المزيج الانفجاري من النفط والديون والقطاع المالي.

في وقت كتابة هذا التقرير، تتداول الأحاديث عن صفقة محتملة بين الولايات المتحدة والسعودية وروسيا حول مستويات إنتاج النفط، ومن غير المحتمل أن يكون لهذه الصفقة أي أثرٍ مستدام على سعر النفط بالنظر إلى الدمار الهائل للطلب الذي حدث في الأسابيع الأخيرة. ولاحظ بعض المراقبين مفارقة رؤية قادة الحزب الجمهوري الذين كانوا يَدْعون، في السابق، لتفكيك أوبيك بسبب سلوكها الأشبه بالكارتيالات وَهم يطالبون الآن بتواطؤ أكبر مع السعودية وروسيا بشأن الأسعار. لا شك بالتأكيد في أن الأزمات المتضافرة لوباء كوفيد-19 والانكماش الاقتصادي العالمي حثَّت حقًّا على تغيّر الاصطفافات السياسية، والشَّرَاكات الغريبة، والفُرص الجديدة للتغيير السياسي، لكن هذه اللحظة في الوقت نفسه لحظة يمكن فيها إعادة صياغة الترتيبات الموجودة وتوطيدها لصالح الأقوى – فنحن نواجه خطرًا حقيقيًّا جدًا في قطاع نفطي منتعشٍ ومتطاولٍ، بدرجةٍ أكثر تمركزًا من أي وقت مضى، داخل أنظمتنا السياسية والاقتصادية. وهذا السيناريو نتيجة كارثية لهذا الوباء الحالي.

المصدر: مدوّنة فيرسو


أود شكر جيفري آر ويبر على مقترحاته المفيدة التي ساعدتني في إعداد هذا التقرير.

ترجمة:

Skip to content