«أول عمل يقوم به الثائر/ة هو أن يخبر ناسه بتاريخهم الحقيقي ويخبرهم من هم». – كوامي توري

مقدمة

في 11 نوفمبر 1968، أي بعد قرابة الشهرين من إعلان ثورة ظفار للإلغاء الرسمي للعبودية في كافة المناطق المحررة في عمان، قبضت القوى البريطانية على مراغة جمعان الخادم قرب الحدود في محمية عدن الشرقية. كان الخادم قائد المُستعبَدين الهاربين الذين انضموا إلى جبهة تحرير ظفار، إثر إلغاء العبودية، في النضال ضد الإمبريالية السلطانية والبريطانية في عمان،[1] وشَغْل منصبًا قياديًّا فيها، في الوقت الذي كانت فيه العبودية مباحةً قانونيًّا في كلّ الأراضي الخاضعة لحكم السلطان. لم يأتِ إلغاء العبودية في أراضي السلطان إلّا بعد ذلك بعامين في 1970، بل وأتى كأحد أركان جهود «مكافحة التمرد» ضدّ القوى الثورية العمانية. ومنذئذٍ، ما كان يومًا محلّلًا بالقانون بات الحديث عن تاريخه وحاضره محرّمًا على الألسن، إلا إن كان ذلك بالذكر العابر لذاك اليوم المجيد، يوم بادر السلطان السابق قابوس بإلغاء العبودية في 1970، لتدفنَ إثر مبادرته كفكرة ومؤسسة تنتمي لتاريخٍ غابر، وأصبح العمانيّون على حياةِ حريّةٍ ومساواةٍ لا يشوبها التمييز العرقي.

تعززت هذه النظرة السائدة للعبودية كأمرٍ مرتبطٍ بالماضي ولإلغائها كإلغاءٍ لعصر العبودية، بإسناد تأريخ عمان إلى ثنائية الحداثة / ما قبل الحداثة. وهذا، وما نتج عنه من إعادة إنتاج ثنائية العبودية / الحرية في تحليل التاريخ العماني، جانبٌ مما سيحقق فيه هذا المقال. يحدد المؤرخون، اليوم، بداية تحديث عمان  بعام 1970 لما صاحبه من فكرة المواطنين الأحرار، بنحوٍ يحيل العبودية مرادفًا – بنحوٍ مداورٍ – إلى الماضي القديم. ولكن منذ 1970 برز نظامٌ آخر (نظام الكفالة) استهدف استغلال عددٍ كبيرٍ من الناس من شبه القارة الهندية وأفريقيا، ضمن عملية التنمية الحديثة هذه. والجماعات هذه، التي تعيش ضمن إطار المواطنة الحرة، تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية، لاختلافها عن الصورة المثالية للمواطن العماني العربي – فالتنوّع الإثني والثقافي لهذا البلد الذي يسمّي نفسه اليوم بلدًا عربيًّا، واضحٌ في كلّ مكان. ومن هنا تأتي ضرورة إعادة النظر في تاريخ العبودية في عمان قبل إلغائها في 1970. ونظرًا لشحّ الموارد والوثائق حول هذا الموضوع قبل القرن التاسع عشر، في غياب دولةٍ-أمة بسجلّات وأرشيف للصادرات والواردات، فدراسة فترة حكم آل بوسعيد، بوفرة للمعلومات من الأرشيفات الغربية والدراسات الجديدة، سيكشف عن صورةٍ أوضح للعبودية حتى إلغائها (1740-1970).

تنمو الأبحاث في تاريخ العبودية في عمان من الحقل التاريخي الذي تُحدَّد عليه السرديات والمصادر، فما يَنظر منها لتاريخ عمان كتاريخ عربي أو إسلامي، يحصر مصادره بموجب ذلك، وبالتالي نراه على هوامش التاريخ العربي-الإسلامي، أو دراسات الخليج أو دراسات المحيط الهندي. ولكن أغلبية الأبحاث، أيًّا كان حقلها، يعيد إنتاج الثنائية الغربية للحرية/العبودية بما يصاحبها من افتراضات عنصرية واستشراقية. ورغم ذلك فَبين أغلبية الباحثين، وخصوصًا في دراسات المحيط الهندي، إجماعٌ على أنّ التنوع الثقافي والإثني الملحوظ في عمان ناتجٌ عن تفاعل ديناميكي بين عوامل وأطراف عابرة للأوطان،[2] والأطراف الرئيسة هي: البريطانيون وآل بوسعيد والتجّار الهنود.

ومن جانبٍ ليسَ بآخر، بل ملتحمٍ بالجانب الأول، سيستكشف هذا المقال الدور التاريخي الذي أدته تجارة العبيد عبر المحيط الهندي في تشكيل التنوع العرقي والإثني لسكان عمان اليوم. وسيتطرق إثر ذلك للافتراضات الشائعة التي اتصفت بها دراسة العبودية في المحيط الهندي، كافتراض شيوع الاستعباد المنزلي للنساء والمخصيين في المجال غير المنتج خارج القطاع الاقتصادي، فهذه الافتراضات مغلوطة غالبًا. ولأجل فهم أوضح لتاريخ العبودية في عمان لا بد من نظرة أكثر إمعانًا وأشدّ تمحيصًا للأدبيات.

استنادًا إلى ما يذهب إليه فهد بشارة بأنّ الأزمنة التاريخية ليست ثابتة، يمكننا القول إنّ العبودية في تاريخ عمان كان لها أشكالٌ ودرجاتٌ مختلفة في مختلف الأزمان،[3] ولهذا ففي القرن التاسع عشر اختلط الإقطاع بالحداثة. وسيستمدّ هذا المقال من كلمة محمود ممداني بأنّه «سواءً كان موضوع التحليل خطابًا أو تجربةً معيشيةً، فلا بدّ من تزمينه وفهمه في تطوّره التاريخي»،[4] لأذهب بها إلى القول بأنّ تاريخ العبودية في عمان تاريخٌ متنوّعٌ، كجزءٍ من تاريخ المحيط الهندي، حيث التحولات في هذا التاريخ ساهمت في تحول أسماء مؤسسة العبودية وأشكالها.

ولإنجاز هذه الأهداف علينا، بادئًا، النظر في تاريخ الاقتصاد السياسي العماني تحت آل بو سعيد بغاية إبراز أنساق التحوّل، التي صاحبت صعود تجارة العبيد واضمحلالها إلى حين إلغائها، وتحديد المنتفعين من هذه التحولات. وسيتجه المقال بعد ذلك إلى النظر في مصادر من المنطقة حول تجارة العبيد في المحيط الهندي، وأساليب الأَسْر، وأعداد المستعبَدين (في كل زمن تاريخي) الذين انتهى بهم الحال في عمان، وذلك بغاية فهم التنوع الإثني في عمان اليوم. وأخيرًا سيبحث النصّ في التوزيع الديمغرافي للمستعبَدين في مناطق عمان وأنواع الأعمال/القطاعات التي استُعبِدوا فيها تحت نظام العبودية القديم.

مراجعة الأدبيات: في أيّ إطار نفهم تاريخ عمان؟

تأريخ العبودية – كمفهوم – قديمٌ قدم التاريخ، فأول وثيقة قانونية تذكر بيع المستعبَدين نجدها في قانون أورنمو (2300 قبل الميلاد) في العراق،[5] وبعدها بألفين عام نجد أول دفاع عن العبودية كمؤسسة في «السياسة» لأرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد.[6] وعادت نظرية أرسطو للثنائية الطبيعية بين الحرية والعبودية للظهور في تأريخ التوسع والاستعمار الأوروبي في الأطلسي منذ بداية القرن الخامس عشر، ولكن إطار التأريخ التقليدي لعمان يدخل ضمن ثلاثة حقول عادةً: التاريخ العربي/الإسلامي، تاريخ المحيط الهندي، وتاريخ الخليج.

وعند النظر في أدبيّات العبودية في العالم العربي/الإسلامي، نرى المفهوم الأوروبي لثنائية الحرية/العبودية مسقطًا على هذه النقاشات. فلظهور المفهوم الحديث للمواطن الحر اتصالٌ وثيقٌ بظهور مفهوم العبودية «المتاعية» (chattel slavery): حيثما كان الشخص الأبيض «المتحضر» الحر ذو الحقوق، كانت الحاجة إلى شخصٍ مُستعبَدٍ أفريقيٍّ أسود «متخلّف» بلا حقوق، يوصف بـ «المتاع». وحينما يسقط هذا المفهوم على التاريخ «العربي/الإسلامي»، يُنتج نظرةً ضيقةً لمفهوم العبودية في العالم المتحدث بالعربية، تعزلها عن أشكالٍ أخرى للاستغلال والاستعباد. وذلك يؤدي إلى إنتاج وهمٍ يعتّم على الواقع المشهود، ويعيد إنتاج سرديات أورو-مركزية حول العرب/المسلمين، من النوع الاستشراقي الذي يشير إليه إدوارد سعيد.[7]

وقد نسبَ عددٌ من الدراسات الأكاديمية المعروفة، وبنحوٍ جامدٍ، تاريخ العبودية في المنطقة إلى العروبة أو الإسلام، ما أتاح تطور عددٍ من الافتراضات في تأريخها، فنجد ويليام جيرفاس كلارينس-سميث (2006) يصوّر تجارة العبيد «الشرقية» بأنها عبوديةٌ تتصف بحضور «المخصيين» الأفارقة كأثمنِ العبيد،[8] ويذهب إلى أنّ المستعبَد كان يُعامَل مثل «المتاع» إنما ببعض الحقوق،[9] في حين تزيد عليه بيتريس نيكوليني (2004) بأنّ «العبودية الإسلامية» كانت أبوية، استهدفت غالبًا النساء الأفريقيّات،[10] ولهذا تذهب إلى أنّ «العبودية الإسلامية» كانت خَدَميّةً منزليةً ولم تُستخدم في القطاعات الإنتاجية.[11] ومشكلة هذه الافتراضات هي تقديمها تاريخًا جامدًا للمنطقة، وبالتالي مفهومًا جامدًا للعبودية. وذلك ينمُّ عن مشكلتين، الأولى مفادها: مع صحّة مقولة أنّ الإسلام لم يلغي العبودية نظريًّا، فالواقع التاريخي يقول أنّ الإسلام لم يحمل فهمًا موحّدًا وممارسةً واحدةً للعبودية في كافة الأزمنة والأمكنة. والثانية هي الاعتماد على الفكر الأوروبي في تعريف الأزمنة التاريخية ومعاينة تغيّر المؤسسات فيما بينها، مثل تغيّر العبودية من الزمن القروسطي إلى الزمن الحديث. ولهذا فالفاصل التاريخي يستند إلى الفكر الأورو-مركزي وتأثيره، حيث أوروبا مركز الحداثة، وبلدان الجنوب العالمي (مثل عمان) تُلقَّم الفكر الأوروبي والتاريخ الأوروبي و«صناعة التاريخ»، استنادًا إلى هذا الخطّ الزمني وإسقاطه على الماضي. وبما أنّ أوروبا، وبريطانيا بالتحديد، استخدمت العبودية «المتاعية» في تاريخها قبل إلغائها، فالتأريخ في عمان استعارَ المفهوم الأوروبي للعبودية «المتاعية» وأسقطها على تاريخ العبودية في عمان.

ومع ظهور الدراسات المتعلقة بالمحيط الهندي في العقد الماضي، بدأ المؤرخون بشقِّ طرقٍ جديدة في مهمة استكشاف المفاهيم البديلة أو الجديدة لإثراء فهمنا لتاريخ العبودية في المنطقة، ولكن غالب تأريخ العبودية وتجارة العبيد في المحيط الهندي ما زال واقعًا في الاستخدام الأوروبي لثنائية الحرية/العبودية كطريقةٍ تحليلية مقارِنة لدراسة تاريخ العبودية خارج الأطلسي. يجادل غوين كامبيل (2004) في هذا الصدد بأنّ عبودية المزارع في الأطلسي اختلفت اختلافًا حادًّا مع فكرة العبودية في عالم المحيط الهندي، فمع تغيّر الأخيرة مع مرور الزمن ظلَّ المُستعبَد بموجبها «شخصًا بصفته ملكيّة».[12]

في المقابل نجد مؤرخين حاولوا إحداث قطيعةٍ مع الأنماط السائدة المرتبطة بالتاريخ «العربي/الإسلامي» للعبودية مع إبقائهم على التحليل المقارن مع الأطلسي، فوصلوا إلى القناعة بأنّ مفهوم الحرية مفهومٌ أوروبيٌّ مرتبطٌ بالحداثة.[13] وبمعاينة العلاقة بين العبودية وإلغائها، والرأسمالية والإمبريالية، في الأطلسي، ذهب باحثون إلى أنّ العبودية مفهومٌ لاقى اعترافًا كصنفٍ في كلّ مكانٍ وإنْ في أزمانَ مختلفة؛ استنتاجٌ مهّد الطريق لتوسعة مفهوم العبد/اللا-عبد. يضيف كامبيل (2005)، ناهلًا من المفهوم المقارن نفسه مع الأطلسي، ومستخدمًا الإلغاء كطريقةٍ لدراسة تاريخ العبودية وتجارة العبيد في المحيط الأطلسي، أنّ أشكال العبودية في المحيط الهندي لم تكن جميعها متوافقة مع الشكل الأطلسي، حيثُ وُصِل إلى وجود خمسة أصنافٍ للعمل غير الحر وغير الاستعبادي ذا شروط العمل والسكن الأشبه بالعبودية.[14]

ذكر عمان، في الأدبيات الرائجة للتاريخ «العربي/لإسلامي»، والأعمال الأكاديمية الغربية، ودراسات العبودية حول دور العرب/المسلمين في المحيط الهندي، إما نادرٌ أو يرجى إلى الهوامش. والعمانيون ينظر لهم (محليًّا) كعربٍ أقحاح، شاركوا في تجارة المحيط الهندي منذ العصر القديم، وساهموا في نشر الإسلام في شرق أفريقيا، وطردوا البرتغال من المحيط الهندي، وشيّدوا بعد ذلك الإمبراطورية العمانية في القرن التاسع عشر.[15] ويذهب المؤرخون هنا إلى أنّ من كفل ازدهار تجارة العبيد في القرن التاسع عشر، عند النظر في التفاعل التاريخي مع المحيط الهندي، هم آل بوسعيد بالتعاون مع رأس المال الهندي، دون أن تقدم صورة واضحة حول تاريخ العبودية في عمان نفسها.

من بين الأعمال القليلة جدًّا التي تتعامل مع تاريخ العبودية في الخليج، يتفق جيرزي زدانوسكي (2008) مع كامبيل حول وجود نظام العبودية في منطقة الخليج وتمايزه عن النموذج الرأسمالي للأطلسي، وأيّده في أنّ الإنتاجية المباشرة لم تكن الدافع الأقوى لهذا النموذج، بل الشواغل الاجتماعية وإعادة إنتاج الجماعة المستعبَدة.[16] وفي مقاربة مختلفة يحاول ماثيو هوبر (2015) إحداث قطيعة مع الثنائية الصارمة للحرية/العبودية ويعلن عَرضيّتها فيما يتعلق بدراسة العبودية في منطقة الخليج، مع ذهابه إلى أنّ كلا نظامَي العبودية – في عالمَي الأطلسي والهندي – تأثّرا بالمثلِ بالقوى الاقتصادية العالمية (الرأسمالية).[17] ويشدد على أنّ لا معنى واحد للعبودية بل مستوياتٌ مختلفةٌ للخَدَميّة. ورغم تفنيده للعديد من الافتراضات القائمة في تاريخ العبودية «العربية/الإسلامية»، التي يسميها العبودية «الشرق أوسطية»، فدراسته ظلت محصورة بثنائية العبد/اللا-عبد، ما يغبّش ألوان العبودية في عمان بدلًا من تمييزها.

هذا المقال سينطلق من أعمال فهد بشارة ومحمود ممداني، التي تفند تلك الافتراضات التي تصور تاريخ العبودية خارج الأطلسي كمحاولة فاشلة لإنتاج تعريفٍ كونيٍّ يناسب كلا الزمنين: ما قبل الحداثة وما بعدها. في بحثه في أوراق أرشيف زنجبار للدَّين وفتاوى الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي (1811-1871) يذهب بشارة إلى أنّ الأطراف المحلية والإقليمية تكيَّفت قانونيًّا مع التغيرات الاقتصادية والسياسية التي خامرت غربيّ المحيط الهندي في القرن التاسع عشر.[18] ويضيف أنّ النقلة إلى الرأسمالية والاستعمار حصلت تدريجيًّا مع تكيّف الفقهاء الإباضيين والشركات الرأسمالية الهندية مع التغيرات الاجتماعية-الاقتصادية التي حصلت في المنطقة.[19] وهذا يتوافق مع نظرية سيدريك روبنسون في بحثه في أصل الرأسمالية العرقية، في وجهها الذاهب إلى أنّ التحولات التاريخية، مثل الحداثة، لم تستبدل كافة المفاهيم والمؤسسات من الماضي، بل استعارت تلك المفاهيم والمؤسسات أيضًا.[20] ويقدّم بشارة صورةً لتزامن النقلة إلى العبودية المتاعية في عالم المحيط الهندي واضمحلال الأشكال القديمة (العسكرية-الإدارية) للعبودية مع دخول الحداثة والرأسمالية إلى غربيّ المحيط الهندي في القرن التاسع عشر.[21]

وسينتفع هذا المقال أيضًا من مقولة ممداني بأنّ الثنائيّة الكونية الواحدة للحرية/العبودية، المنزلية/المتاعية، التي تنمّ عن الفكر الأوروبي الحديث، لا يمكنها إدراك «التنوّع الثريّ لأغلبية العالم ما قبل الحديث».[22] ويضيف ممداني نوعًا ثالثًا للعبودية، على «المنزلية» و«المتاعية»، إلى الجدل، سبق وذكرناه، ألا وهو النوع «العسكري-الإداري» للعبودية. ويشدد أنّ مجال اللا-حرية تضمّن جملةً من علاقات التبعية. ويقول إنّ «القوة ماقبل الحديثة والحديثة معرَّفتان بموجب منطقينِ متعاكسينِ جذريًّا: الأول إدماجي، والثاني تفريقي».[23] وبالتالي من الصعب إنتاج تعريفٍ كونيٍّ للعبودية يناسب كافة الأزمنة التاريخية في كل مكان في العالم.

ولكن لا وجود لشيءٍ يمكن تسميته بالعبودية «العربية/الإسلامية»، فالافتراضات التي تستند إليها استشراقية وعنصرية. وفي الوقت نفسه، فإطلالةُ المحيط الهندي على عمان لا يمكن إغفالها في أثناء التطرق لما جرى لمؤسسة العبودية خلال الثلاثة قرونٍ الماضية. سينطلق هذا المقال من أعمال بشارة وممداني، في إعانتهما على توضيح صورة تاريخ العبودية في عمان. وهذا سيساعد في الإجابة على سؤال: لماذا لم تلغى العبودية نتيجة النقلة من الإقطاع إلى الحداثة والرأسمالية، بل تغيّر شكلها؟ وسيساهم إثر ذلك في إيجاد تفسيرٍ منطقيٍّ لمقولة أنّ نظام الكفالة في المنطقة يمثل استمراريّةً لمؤسسة العبودية القديمة، إنما بشكلٍ حديث. وبالطبع فأعمال بشارة وممداني تساهم أيضًا في الكشف عن كون الوضع الطبقي الاجتماعي العنصري والمزيج الإثنو-ثقافي في عمان اليوم، ناتجٌ عما سيحاول هذا المقال توضيحه في الأقسام التالية: تاريخ العبودية في عمان.

وبالإضافة إلى مناقشة أبحاث بشارة وممداني سأراجع وثائق أرشيف شركة الهند الشرقية والأرشيف البريطاني كمصادر أولية تغذي نقاشي في هذا المقال لدوافع آل بو سعيد (1744 وحتى يومنا هذا) في توسع وسقوط تجارة العبيد في عمان والمحيط الهندي، وسأناقش أدبيّات ثانوية تحاول إعادة صنع التواريخ المحلية لشرقيّ الجزيرة العربية، بالتركيز على دور الرأسمالية، والإمبريالية الغربية، ومصالح الطبقة الحاكمة وتشكيلها، وأقارن هذه النصوص بالسرديات الشائعة والمتعاطفة مع سرديات سلطان عمان الرسمية والاستعمارية (أو على الأقل: للأخيرة أثرٌ عليها).

الاقتصاد السياسي لتكوّن عمان (1740-1970)

في 23 يناير 1650 تمكن تحالف بقيادة سلطان بن سيف اليعربي بدعم من التجّار البنيان الهنود من توحيد عمان (شمال عمان والإمارات العربية المتحدة اليوم) وطرد الاحتلال البرتغالي الذي دام قرابة 150 سنةً في عمان.[24] تمكن تحالف اليعاربة مع السواحيليين، بقيادة الإمام سيف بن سلطان اليعربي في 1698، حاملًا راية الجهاد ضد الغرب وبدعم من التجار الهنود،  من انتزاع مومباسا وكيلوا من البرتغاليين. ومع نهاية القرن السابع عشر ازدهرت عمان تحت حكم الإمام سيف (قيد الأرض)، الذي امتلك ثلث حقوق الأرض والمياه في عمان، وبعد وفاته في 1711 دخلت البلاد حربًا أهليّة مهيبة دامت ثلاثين عامًا، ما أفسح المجال لنادر شاه (شاه إيران) ليبسط سلطانه على عمان وسواحل الخليج العربي.[25] وبعد حكم نادر شاه تبدأ قصّتنا، وشخصيّاتها الرئيسة آل بو سعيد والتجّار البنيان الهنود والإمبريالية الغربية، واستغلال هذه الأخيرة للتحولات بين 1744 و1970، عام الإلغاء الرسمي للعبودية. مع تغيّر الأوضاع تغيّر شكل العبودية وتغيرت مؤسستها دونَ أنْ تمسّ هذه التغيّرات بمصالح هذه الجماعات الثلاث.

في 1744 قاد أحمد بن سعيد البوسعيدي، وقد كان تاجرًا للقهوة يملك أسطولًا بحريًّا، تحالفًا تمكّن من إجلاء الفرس من ساحل شمال عمان، باستثناء ما أصبح ساحل الإمارات اليوم، ليكون هذا تاريخ انفصال الأرضين حتى يومنا هذا.[26] وبدعم من رأس المال الهندي الغوجاراتي، وجيشٍ قوامه 2,200 مقاتل، مكوّنٍ من 1,000 من القبائل العمانية، و1,000 من المستعبَدين من شرق أفريقيا، و100 من «المرتزقة» البلوش، عمد أحمد بن سعيد على بسط سلطانه على شمال المحيط الهندي.[27] وطموحه هذه تصادمت مع محاولات توحيد عمان، الساحل والداخل، حيث ظلّ الأخير ضمن مُلك قبائل متحالفة مع اليعاربة. ومنذ منتصف القرن الثامن عشر كوّنت المصالح التجارية علاقة قريبة بين التجار البنيان وآل بوسعيد، استمرت حتى يومنا هذا.

وفي 1750 بدعم ماليٍّ هندي احتل أحمد بن سعيد جزيرةَ زنجبار وبدأ محاولته تمديد حكمه على مدن ساحل شرق أفريقيا.[28] وعاشت مسقط أيام ازدهارٍ اقتصاديٍّ وقتها نتيجة موقعها الجغرافي، فقد ربطت الهند وشرق أفريقيا من جهة، والهند والخليج العربي من جهة أخرى. وساهم ذلك في جذب التجار الهنود للاستقرار في مسقط وبناء تجارتهم فيها، ما أدى لزيادة سكانها إلى حاولي 1,200 نسمة في 1765،[29] فمقابل توفيرهم رأس المال له منحَهم أحمد بن سعيد الحقّ في جباية الرسوم الجمركية. وفي تلك الأثناء بدأت شركات الهند الشرقية، الإنجليزية، والفرنسية، والهولندية تنافسها الإمبريالي في المحيط الهندي وسواحله،[30] وأتت حاملةً الخبرة الأوروبية المستحصلة في المحيط الأطلسي، وخصوصًا الاستعباد الزراعي، الذي وظَّفه الفرنسيّون تحديدًا في جزيرة ريونيون، قِبال مدغشقر.

وظلَّ أحمد بن سعيد مترحلًا بين مسقط وزنجبار حتى وفاته عام 1783 في أثناء رحلة في المحيط الهندي.[31] وعندها دخلت أجنحة آل بوسعيد في صراعٍ داخليٍّ بينها على السلطة والفُرص المتأتية من ازدهار التجارة في المحيط الهندي، كاد أنْ ينتهي بتمكَّن أخوه حمد من الإمساك بالحكم، ولكن حكمه لم يدم طويلًا، ففي عام 1792 تمكن ابن أخيه سلطان بن أحمد، وخلفه الرأس مال الضخم من عدد من التجار الهنود والدعم الإمبريالي لشركة الهند الشرقية الإنجليزية، مِنْ إسقاط حمد.[32] وبعدها عمل سلطان بن أحمد على إكمال عملية التمدد، ليبسط حكمه على ميناء غوادر (في باكستان اليوم) وبندر عباس، من بين مناطق أخرى، ويعيّن ياقوت بن عنبر الحبشي حاكمًا لزنجبار.[33] ومع نهاية القرن الثامن عشر تعرضت عمان لهجمة من القوات الوهابية وصارت ساحة صراعٍ محتدم بين الإمبريالية الفرنسية والإنجليزية،[34] قامت إثره اتفاقيتان في 1798 و1800 بين آل بوسعيد وشركة الهند الشرقية البريطانية، الأولى لضمان النفوذ البريطاني، والثانية حولت عمان وآل بوسعيد تابعًا للإمبريالية البريطانية في المحيط الهندي.[35]

في 1804 توفي سلطان بن أحمد في أثناء رحلة إلى البصرة، فدخلت عمان في وضع مشابه لما كانت عليه يوم توليه السلطة بصراع عائلي على العرش، انتهى باستيلاء أخيه قيس بن أحمد على السلطة لمدة عامَين، ليستقرّ الحكم بعد ذلك في يد الابن سعيد بن سلطان – بعمر 15 عامًا – بمساعدة من الوكيل السياسي البريطاني في مومباي.[36] ومع نهاية 1819 وطوال 1820 دعمت البحرية الملكية البريطانية أساطيل سلطان مسقط وعمان سعيد بن سلطان البوسعيدي في هجمةٍ جائحة على موانئ القواسم على ساحل عمان (الإمارات اليوم).[37] وكان ذلك في أمل الاستحواذ على ساحل عمان من القواسم الذين قاموا وقتها بفرض ضرائب على كافة السفن الداخلة للخليج العربي والخارجة منه. ومع اشتداد التنافس بين الإمبرياليتين الفرنسية والبريطانية في المحيط الهندي، واحتلال زنجبار الصدارة ضمن موانئ تصدير العبيد إلى مزارع الجزر الفرنسية في المحيط الهندي، وقّعت بريطانيا معاهدة مع سعيد من سلطان تمنع بيع العبيد إلى الأمم المسيحية في 4 ديسمبر 1822،[38] وكان من ضمن موادها إعطاء بريطانيا الحق في تفتيش ومصادرة السفن في المحيط الهندي.

كان التجّار الهنود أكبر المنتفعين من تداخل مصالح الإمبريالية البريطانية مع عائلة البوسعيدي، بعد أن صاروا رعايا التاج البريطاني. وانتفع سعيد بن سلطان هو الآخر من مساعدة البريطانيين في 1828 لهزيمة المزاريع، الذين حكموا مومباسا بعد اليعاربة، ليبسط آل بوسعيد سلطانهم على الساحل الشرقي لأفريقيا.[39] وجعلت بريطانيا من مسقط، بمساعدة من التجار البنيان، مركزًا تجاريًّا يلم شمال غربي المحيط الهندي وزنجبار، ومركزًا تجاريًّا لجنوبي المحيط الهندي، حيث فرضت رسومًا لعبور مسقط سواءً ذهابًا إلى الهند أو قدومًا منها.[40] وهذا هو ما أدى لصعود مسقط في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، بصفتها «أكبر مستعمَرة» لجاليات التجار الهنود في المحيط الهندي، بقرابة 2,000 نسمة.[41] ومع افتتاح سعيد بن سلطان لمزارع القرنفل في زنجبار ومدن الساحل الشرقي لأفريقيا بغرض تلبية حاجات أوروبا والاقتصاد العالمي، ازدهرت التجارة في زنجبار إلى حدٍّ فاق وزن مسقط، ما دفع سعيد بن سلطان إلى نقل عاصمته وبلاطه إلى زنجبار في 1840.[42] وطبيعة نظام المزارع الاستعبادية الأوروبي استلزمت أعداد ضخمة من العمالة، فاستخدمت العبودية «المتاعية» للإنتاج الرأسمالي الذي انتفع منه مباشرة آل بوسعيد والتجّار الهنود والشبكة الاقتصادية الإمبريالية. وتضخمت ثروات البوسعيدي من جباية الجمارك على كافة الموانئ وكافة الواردات والصادرات، بما في ذلك تجارة العبيد.

في 1856 توفي سعيد بن سلطان البوسعيدي لتعود مع وفاته صراعات العائلة على العرش للمرة الثالثة على التوالي.[43] ولكن شيئًا ما تغير هذه المرة، ففي يد بريطانيا قوّة أكبر من آل بوسعيد أنفسهم في تأمين العرش، وإذا بها تأخذ على عاتقها منذئذ ضمان استقراره.[44] وأتى ذلك، في تلك اللحظة، بقرار بريطاني بتوزيع السلطة بين نَجلي سعيد بن سلطان، ثويني سلطانًا على مسقط وعمان، وماجد سلطانًا على زنجبار، لتعويض خزينة مسقط من العائدات الوفيرة لزنجبار، ما دفع سالم بن ثويني لقتل أبيه وانتزاع حكم سلطنة مسقط وعمان، في حين قام أخوهما برغش بمحاولة انقلاب فاشلة على ماجد في زنجبار بمساعدة من أخيه تركي بن سعيد وصالح بن علي الحارثي، لتنتهي بنفي الثلاثة إلى الهند.

ولكن الاضطرابات لم تقف مع هذه الانقلابات، فقد أسقطت حكومة سالم بن ثويني في سبتمبر 1868 بتحالفٍ بين عزان بن قيس بن سلطان البوسعيدي، ابن أخ سعيد بن سلطان، والفقيه سعيد بن خلفان الخليلي وصالح بن علي الحارثي.[45] ومع أنّ الحكم استبدله نظام ديني (الإمامة الإباضية) فالتغييرات الأساسية لم تمسّ التجار الهنود، ولكن مع إعلان الخليلي التنصل من كافة ديون الدولة السابقة، انخفضت جالية البنيان في مسقط حتى وصلت 250.[46] وفي يناير 1871 عاد تركي بن سعيد من الهند ممولًا من تجّارها وأرسى النظام السلطاني مرةً أخرى على الساحل مع انحسار الإمامة إلى الداخل.[47] وفي 14 أبريل 1874 وقع تركي اتفاقية مع بريطانيا لإلغاء تجارة العبيد، دون إلغاء العبودية نفسها.[48] وبعد عقدين من الكساد التجاري اتسعت مزارع التمور في عمان مع ازدياد الطلب عليها في الأسواق الأمريكية في أواخر القرن التاسع عشر،[49] وانتفع ما تبقى من تجّار هنود مباشرةً من هذا الانشراح التجاري.[50] ومع تولي فيصل بن تركي العرش مع وفاة أبيه في 1888، حدثت طفرة في الطلب الفرنسي على لؤلؤ الخليج مع ازدهار تجارة التمور. وهذا دفع فيصل للسماح بتأسيس محطة فحم فرنسية في مسقط، ما دفع بريطانيا للتهديد بالهجوم العسكري على مسقط.[51] وإذعان فيصل لم يكن إلا مثالًا آخرًا على تسلسل الأحداث التي تشهد على أنّ عرش السلطان مع مطلع القرن العشرين لم يكن إلا امتدادًا للعرش البريطاني الإمبريالي.

وفي 1907 اندلعت انتفاضة في ظفار ضد سياسات الحاكم الجديد بخيت النوبي، ليُسقط حكم بخيت – وهو أحد ولاة فيصل المستعبَدين – في 1915.[52] وفي عام واحدٍ هزم الجيش الهندي البريطاني قوّات الإمامة ليتبعها توقيع اتفاقية السيب في 1920 في ظل حكم تيمور بن فيصل. وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى الحرب العالمية الثانية انعكس الكساد العالمي على الوضع في عمان، مع تدشين البريطانيين لحكم سعيد بن تيمور في 1932. ومع اكتشاف كميات كبيرة من النفط في الأراضي الخاضعة للإمامة في الداخل، وحدت بريطانيا عمان بحربٍ دموية، لتظلّ ضمن حدود النظام السلطاني – كما هي اليوم – مع نهاية الخمسينيات.[53] ومع بداية تصدير النفط في وسط الستينيات اندلعت ثورة شعبية ضد الحكم السلطاني وبريطانيا. بدأت الثورة في ظفار، وفي أثناء مؤتمر حمرين في سبتمبر 1968، أصدر عدد من القرارات الثورية، أحدها إلغاء العبودية جملةً وتفصيلًا.[54] ومع زحف الثورة الشعبية على شمال عمان، استجابت بريطانيا بإسقاط سعيد ووضع ابنه قابوس محلّه في 1970. وضمن جهود الثورة المضادة قام النظام السلطاني بإلغاء نظام العبودية القديم في العام نفسه.

وبعد السبعينيات أدخل نظام آخر للاستغلال بتجاورٍ مع نظام الجنسية الجديد، ألا وهو نظام الكفالة، ليكون ذلك شاهدًا على أنّ أشكال مؤسسة العبودية تغيرت لكنها، كنظام، ظلّت تملأ جيوب آل بوسعيد والتجّار البنيان الهنود والإمبريالية البريطانية؛ تسلسلٌ يدعم ما نذهب إليه من أنّ شكل العبودية في ظلّ العصر الإقطاعي لم يقطعه دخول الحداثة والرأسمالية، رغم إدخال الرأسمالية الشكل «المتاعي» للعبودية. وفي هذا القسم ناقشنا استخدامَ الطبقة العليا التاريخي للعبودية، إنما بأسماء وأشكال مختلفة، لتأمين حكمها الطبقي. ولكن وإنْ كانت النتيجة عمانية في النهاية، فالمصالح كانت مصالح ثلاث جماعات صغيرة جدًّا متعددة الجنسيات، ليست العمانية إلا واحدة منها.

التنوع الإثني في عمان

تشير المصادر التاريخية إلى أنّ العمانيين هاجموا جزيرة سالسيت في 1694 على ساحل مومباي واختطفوا 1,400 شخصًا وعادوا بهم عبيدًا إلى عمان.[55] وكما أسلفنا الذكر، وصل اليعاربة ذروة قوتهم في تلك الفترة تحت سلطة إمام سيف بن سلطان وبمساعدة التجار الهنود البنيان، وتشير المصادر هنا إلى أنّ إمام سيف، قيد الأرض، ملك 1,700 عبدًا عند نهاية القرن السابع عشر، الفترة التي شهدت بداية ارتفاع الأعداد في تجارة العبيد في المحيط الهندي.[56] من المثال أعلاه نرى أنّ المصادر الجغرافية للاستعباد في تاريخ عمان لم تكن محصورة بأفريقيا بل تنوعت حتى شملت عمان نفسها. وإنْ كان هذا المثال يبين طريقةً للاستعباد (الاختطاف)، فالمصادر تكشف عن طرق أخرى تغيرت مع مرور التاريخ، منها عبيد الديون، والأقنان، والمَرَاهين، الذين يُباعون أطفالًا كفديةٍ أو ضريبة.[57] وسننظر في هذا القسم في المصادر الجغرافية لتجارة العبيد، وطرق السبي، وعدد المستعبَدين الذين انتهى بهم الحال إلى عمان في أثناء الفترة موضوع درس المقال، 1744-1970. وهذا سيكشف مصادر التنوع الإثني في عمان اليوم ويفند الأوهام التأريخية حول تجارة العبيد، وتحديدًا مقولة ارتكاز تاريخ العبودية في المنطقة حول النساء المستعبَدات.

وكما أسلفنا الذكر، كان جيش أحمد بن سعيد – الممول من التجار البنيان – مكونًا من ثلاث فئات: العمانيون، المرتزقة البلوش، والمستعبَدون من شرق أفريقيا. والمصادر تشير إلى أنّ أحمد بن سعيد اشترى 1,000 مستعبدٍ في صكٍّ واحدٍ قبل سنواتٍ قليلة من توليه العرش، ما يثبت أهميتهم لمشروع بناء الدولة البوسعيدية،[58] فقد استثمر آل بوسعيد مع التجار البنيان – بنحو مباشر ومداور – في تجارة العبيد وحققوا أرباحًا ضخمة مع نهاية القرن الثامن عشر. وإنْ كان اسم ياقوت الحبشي، والٍ للإمام سلطان بن أحمد على زنجبار، يشير إلى أصله الإثيوبي، فتنوع الأصول الجغرافية للمستعبَدين يتبين في مصادر أخرى تشير إلى استجلاب المستعبَدين من القوقاز وأوروبا الشرقية وشبه الجزيرة الهندية وساحل مكران وأفريقيا،[59] ما يناقض المغالطات التي تحصر الاستعباد في تاريخ عمان بأفريقيا السوداء وما تنمّ عنه من منظورٍ عنصريٍّ أورو-مركزيٍّ يدبس البشرة السوداء بالعبودية، يرجع إلى تجربة أوروبا الحديثة مع العبودية الزراعية في الأطلسي وسطوتها المعتمة على الممارسات التي شاعت في أرجاء العالم الأخرى.

ومع منتصف القرن الثامن عشر، اشتد التنافس الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا وهولندا في التسابق للسيطرة على رقع العالم، ولم يكن المحيط الهندي بمنأى عن ذلك. فمع اشتداد الحرب الأنجلو-فرنسية (1778-1783) وإدخال نظام الاستعباد الزراعي في المحيط الهندي مع الرأسمالية الحديثة، بدأ الطلب على المستعبَدين من شرق أفريقيا بالتزايد.[60] وكانت شركات الهند الشرقية كافةً، الإنجليزية والفرنسية والهولندية، هي المشتري الأكبر للمستعبَدين من زنجبار وكيلوا حتى بداية القرن التاسع عشر،[61] والمصادر تشير إلى تصدير حوالي 600 ألف مستعبَدٍ من شرق أفريقيا إلى مختلف سواحل المحيط الهندي أثناء القرن الثامن عشر،[62] وتقدّر حصّة مسقط من ذلك بما بين 500 و1,000 مستعبَدٍ شرق أفريقي سنويًّا من 1772 وحتى نهاية القرن.[63] وكان لإدخال الرأسمالية الحديثة والتنافس الإمبريالي الغربي في المحيط الهندي دور أساسي في  الصعود الكبير للنخاسة في أثناء القرن الثامن عشر، الذي كان لشرق أفريقيا – إن جاز القول – نصيب الأسد منه، وعادت منفعته إلى آل بوسعيد والتجار البنيان. ومع توقيع اتفاقية 1800 التي وضعت آل بوسعيد وعمان تحت النفوذ والسلطان البريطاني، صارت بريطانيا أحد أكبر المشاركين في استعباد الشرق أفريقيين والمنتفعين من تصاعد الطلب على المستعبَدين.[64]

كانت في عمان في النصف الأول للقرن التاسع عشر حركة مزدهرة على موانئها الرئيسة (صحار ومسقط وصور)، ما شجع ترابط أراضي سلطنة آل بوسعيد على أطراف المحيط الهندي. ووجدت تلك الحركة بوادرها في استيراد المستعبَدين الشرق أفريقيين، الذين شاركوا في كافة أوجه الحياة، في الميناء والجبل والصحراء. يقدر المؤرخون أنّ موانئ عمان استقبلت مجتمعةً حوالي 1,500-3,500 عبدٍ أفريقيٍّ سنويًّا في أثناء النصف الأول من القرن التاسع عشر.[65] وحوالي 60% من هذا العدد أعيد تصديره مباشرةً أو بعد عدة سنواتٍ من التخالط، أغلبهم إلى ضفاف الخليج العربي وقلّةٌ إلى أراضي الدولة العثمانية، وإيران، والهند،[66] لتصير موانئ عمان في أثناء هذه الحقبة أحد أهم الموانئ العالمية المصدِّرة للمستعبَدين الشرق أفريقيين في شمال المحيط الهندي.

وتميزت عمان في أثناء هذه الفترة بهجرة جماعية لآلاف العمانيين إلى زنجبار ومدن ساحل شرق أفريقيا، وهي تُعتبر موجة الهجرة الكبرى الثانية في تاريخ عمان إلى شرق أفريقيا، سبقتها موجة في أثناء حكم اليعاربة، وإنْ بأعداد أصغر.[67] فالسفن التي أتت بالمستعبَدين الشرق أفريقيين إلى عمان في النصف الأول للقرن التاسع عشر عادت بمهاجرين عمانيين ارتحلوا لأجل حياةٍ أفضل. وعدد من هؤلاء تزاوج مع نساء سواحليات واستقر في مدن شرق أفريقيا الساحلية، وقلةٌ قليلة استقرت في المنطقتين وواصلت الترحال بينهما. ولعل هذا هو ما دفع سعيد بن سلطان للاعتماد اعتمادًا كبيرًا على جيش «المرتزقة» البلوش، خلافًا لأسلافه الذين اعتمدوا غالبًا على المستعبدين الشرق أفريقيين. والمصادر تشير إلى أنّ جيش سعيد تكون من 2,000 بلوشي، دون أيّ ذكرٍ للمستعبَدينَ أو الأفارقة.[68] وبالتالي بعد وفاة سعيد بن سلطان في منتصف القرن التاسع عشر كانت كل المناطق الداخلة تحت سلطانه مترابطةً ثقافيًّا وإثنيًّا، سواءً أرادت ذلك أم لا.

مع توقيع السلطان تركي بن سعيد اتفاقية مع بريطانيا لمحاربة النخاسة في 1873 كانت وتيرة استيراد الشرق أفريقيين المستعبدين ما زالت في تصاعد، ليبلغ عدد المستَجلبين منهم إلى عمان مع بداية العشرية السابعة للقرن التاسع عشر 3,000 نسمة سنويًّا.[69] فهذه الاتفاقية لم تنهِ استمرار النخاسة من شرق أفريقيا، التي استمرت حتى بداية القرن العشرين، بل خفضتها تدريجيًّا. فقد ضرب عمان إعصاران كارثيان في 1885 و1890، وقت تزايد الطلب على التمور العمانية واللؤلؤ الخليجي،[70] ما استلزم إعادة بناء سريعة وعالية المستوى، ما أدى إلى تغيير مصدر استجلاب المستعبدين من الشرق الأفريقي إلى سواحل مكران مع نهاية القرن التاسع العشر والربع الأول من القرن العشرين. وتقدر المصادر عدد المستعبدين المتأتين من شرق أفريقيا إلى عمان والجزيرة العربية في القرن التاسع عشر بحوالي ربع مجموع تجارة الرقيق في المحيط الهندي،[71] ما يعني أن تعدادهم يعادل ما بين 150,000 و800,000 نسمة، قرابة النصف منهم استقروا في عمان. وعليه يمكن القول إنّ المصدر الجغرافي للمستعبدين المتأتين إلى عمان تركّز بنحوٍ عالٍ في أغلب القرن التاسع عشر على مصدر واحد: شرق أفريقيا. ويمكن النظر لهذا الواقع كناتج طبيعي لدخول الرأسمالية الحديثة وتوطيد الاستعمار الغربي في المحيط الهندي.

واتفاقية 1873 منحت بريطانيا الحق في تفتيش ومصادرة السفن المنخرطة في النخاسة في المحيط الهندي، وملكية السفن في ذاك الوقت عرفت بالعلم المرفوع على صاريتها، وكان التلاعب بالعلم الطريقة المثلى التي استخدمها النخّاسون في المحيط الهندي حتى بدايات القرن العشرين لمواصلة تجارتهم من شرق أفريقيا. ففي 1901 تذكر المصادر قدوم 1,000 مستعبد شرق أفريقي إلى صور.[72] وكان ميناء صور أحد أهم موانئ النخاسة من شرق أفريقيا في شمال المحيط الهندي حتى خمسينيات القرن العشرين. وفي 1902 شبت معركة شرسة على شاطئ سوموكو في موزمبيق بين تجّار وجنود من صور في صفٍّ، والسكّان المحليين ومعهم القوى الاستعمارية البرتغالية في الصف المقابل.[73] بعد شراء زعاماتٍ محلية لـ 725 شخصٍ، داهمت القوى البرتغالية-المحلية المخيم واعتقلت 123 شخصًا وقتلت 55 آخرين في أثناء المعركة.[74] وفي أكتوبر 1903 حكم على 54 متاجر وعلى زعيم ساموكو على خلفية التهريب بنفيهم إلى أنغولا. وهذا الخبر أذيع في المحيط الهندي كله، وكان له أثر كبير على تجارة العبيد من شرق أفريقيا.

وانخفاض النخاسة من شرق أفريقيا لم يعني توقفها، بل ازدهارها من مصدر آخر: ساحل مكران. وخلافًا لشرق أفريقيا، المصادر العلمية والوثائق التاريخية نزيرة، وبالتالي تغيب الدقة عن الأرقام. ولكننا نعرف أنّه خلال العقدين الأوليْن للقرن العشرين ازدهرت موانئ آل سعد على ساحل الباطنة، خضرة وودام والشرس، واستقبلت المستعبَدين من بلوشستان.[75] تذكر المصادر أعدادًا ما بين 20 و100 شخصٍ سنويًّا استُقدِموا من سواحل مكران مستعبدينَ. وتؤكد هذا المتجه وثائقُ عتق الرقاب التي أصدرتها بريطانيا في الفترة نفسها بعمان، و60% من المنتفعين منها بلوشيّو الأصل.[76] ومع الكساد العالمي في الثلاثينيات والأربعينيات انهار الطلب على التمور العمانية واللؤلؤ الخليجي، واستقدام المستعبَدين من خارج عمان توقف بدرجةٍ كبيرة، ليُستهدفَ مصدرٌ آخر: عمان نفسها،[77] مع تفشٍّ للاختطاف، غالبًا لصغار السن، وكثيرٌ منهم فتيات، من البلوش أو القبائل المتحاربة، أو العتقاء. وحين أعلنت الثورة الشعبية إلغاء العبودية في 1968 كان السلطان سعيد بن تيمور أكبر مُلّاك العبيد في عمان.[78]

بعد إلغاء نظام العبودية القديم تحت النظام السلطاني في عام 1970 كان قابوس بن سعيد بحاجة إلى شريحة بيروقراطية ماهرة لبناء الدولة الحديثة في عمان، وبالتالي استدعى عددًا من العمانيين السواحليين الذين هربوا من زنجبار بعد الثورة الشعبية هناك في 1964، ليستفيد من تجربتهم في إدارة وتشغيل مؤسسات الدولة الحديثة تحت المستعمرة الأنجلو-سلطانية في زنجبار.[79] وهذه الفئة وأبناؤها يسمّون اليوم بالسواحليين.

يشير بشارة إلى أنّ آل بوسعيد ينحدرون من أصول عربية وهندية وأفريقية، وتتبين في هذا القسم الأصول العربية والأفريقية والبلوشية لعموم العمانيين.[80] بمراجعة تاريخ النخاسة في المحيط الهندي ونهايتها في عمان نرى تغيّر مفهوم العبودية وشكلها مع طلوع الرأسمالية الحديثة ومعها التنافس الإمبريالي الأوروبي في المحيط الهندي، لكن استحداث أساليب العبودية الجديدة – وطرق استجلاب العبيد – لم يعني اضمحلال القديمة، بل تعايش الاثنين معًا، ونرى تعددية المصادر الجغرافية لاستقدام العبيد، خلافًا لما ذهبت إليه المصادر التأريخية التقليدية التي تربط أفريقيا السوداء بالعبودية، فالواقع هو أنّ الاعتماد على العبيد من أفريقيا تجاور مع دخول الرأسمالية الحديثة في المحيط الهندي. ويظهر في ذلك ضرورة ربط المحيط الهندي بالنظام الاقتصادي العالمي، فقِواه أدّت إلى تضخم سوق النخاسة في عمان. ومع بداية القرن العشرين وتغيّر سياسة بريطانيا ضدّ العبودية، انخفضت تجارة العبيد من شرق أفريقيا وازدهرت مع ساحل مكران حتى ألغيت رسميًّا في 1970 واستبدلت بأنظمة جديدة للاستغلال.

قطيعةٌ أم استمرار؟

بين العقد الأخير للقرن السابع عشر والأول للعقد الثامن عشر امتلك الإمام سيف بن سلطان ألفًا وسبع مئة مستعبَدٍ، أغلبهم من الهند، وتضيف المصادر امتلاكه ثلث حقوق الأرض والماء في عمان، ما يعادل 30,000 نخلة و6,000 من النارجيل،[81] وأمر بحفر 17 فلج (قنوات ري) وترميم وصيانة أعداد أكبر منها.[82] ويبدو أنّ المحرّك الرئيس للازدهار الزراعي والتجاري في عمان وقتها كان المستعبَدين الألف وسبع مئة هؤلاء. فمن المثال أعلاه يمكن استنباط كون هؤلاء المستعبَدين عملوا في الزراعة والبناء والصيانة والتحميل والإشراف. وبعد موت الإمام سيف واندلاع الحرب الأهلية وما تلا ذلك من احتلال نادر شاه لرقعة كبيرة من الأراضي العمانية، تشير المصادر إلى أنّ الإيرانيين اقتادوا أعداد كبيرة – يعتقد أن أغلبها من النساء – إلى العبودية في إيران.[83] هذا القسم يفند المزاعم التاريخية بأنّ مؤسسة العبودية في المنطقة شغلتها النساء المستعبَدات، وأن وجود الرجال اقتصر على المخصيين، الأمر الذي لم يتجاوز إطار العبودية المنزلية. ولإنجاز ذلك سيفحص هذا القسم التوزيع الديمغرافي للمستعبَدين في عمان، أنواع العمل الذي قاموا به، والفضاءات الاجتماعية التي شغلوها في الفترة المعنية تحت حكم آل بوسعيد، 1744-1970.

وكما أسلفت الذكر في القسمين السابقين استخدم أئمة آل بوسعيد المستعبَدينَ من أفريقيا و«المرتزقة» من بلوشستان لبناء سلطنتهم في القرن الثامن عشر، إذ كانت الجماعتان عماد جيوش آل بوسعيد من أعلاها لأدناها، وقلبَ بيروقراطيتهم الإدارية، وولاتهم أيضًا. وفي شرح ممداني لصفات العصور ما قبل الحديثة، يدرج  إلى جانب التنافس الشديد على العرش، الاعتماد على المستبَعدين.[84] إنّ ولاء هؤلاء وعملهم كان مصدر قوة القادة، فدور العبودية لم يقتصر على إدرار الربح. وتعيين الإمام سلطان بن أحمد لياقوت الحبشي واليًا على زنجبار يؤكد نظرية ممداني القائلة بوجود مؤسسة تاريخية ثالثة للعبودية، إلى جانب المؤسستين الشائعتين: العبودية المنزلية والعبودية السوقية، ألا وهي تلك «التي تدفعها الدولة (الإدارية-العسكرية)».[85] وهذا يحثنا على مساءلة التصنيف التاريخي للجنود البلوشيين كـ «مرتزقة»، فظروف معيشتهم وعملهم كانت أشبه بالجنود المستعبَدين ذوي الرتبة نفسها من أفريقيا، والمصادر المتوفرة تؤكد وجود بلوشيين مستعبَدين مع نهاية القرن التاسع عشر أيضًا. إن اتفقنا مع نظرية ممداني بأنّ استخدام الجنود المستعبَدين دافعه ولاؤهم، فالتغير من الاتكال الكبير على الشرق أفريقيين المستعبدين لدى أحمد بن سعيد إلى الاتكال على البلوشيين لدى سعيد بن سلطان متعلقٌ بالتغير الحيزي للقوة في السلطنة. وبالتالي فاتكال سعيد بن سلطان على الجنود البلوش كان معنيًا بالرغبة في بسط هيمنته على شرق أفريقيا، ومن هنا لنا أن نقول أنّ البلوش كانوا – في الأساس – جنودًا مستعبدين مثلَ سابقيهم، لا مرتزقة.

وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر تحت حكم سعيد بن سلطان، مرّت موانئ عمان بطفرة اقتصادية بارزة. هذا الازدهار سببه ازدياد الإنتاج المحلي لمختلف البضائع لأجل التصدير، من التمور وحتى السمك المملح، والعسل واللوز، والزبيب، والحلوى العمانية، والخراف وغيرها من المواشي.[86] وكان ازدهارها ناتجًا، كذلك، عن ترابط موانئها المترامية على سواحل المحيط الهندي مع مسقط بهدف إعادة التصدير للخليج العربي وإيران والهند. ولهذا فالازدهار أتى مع ازديادٍ ضخم في استقدام المستعبدين الشرق أفريقيين، لإدرار الأرباح لآل بوسعيد والتجار الهنود والإمبريالية البريطانية. والمصادر تؤكد أنّ العبودية لم تقتصر على شكل واحد، بل هي، كما يصفها ممداني، «متنوعة ومتمايزة بدرجة لا تصدق».[87] وقد مسّت كافة جوانب الحياة، من الحقول الزراعية وحتى عمّال المناجم والخدم المنزليين والبنائين وعمال الموانئ والجنود والإداريين، ومنهم «عبيدٌ صاروا أعضاء من النخبة»، ملكوا أراضٍ بل وحتى عبيدًا آخرين.[88] ويضيف بشارة أنّهم شاركوا في تنمية الاقتصاد الزراعي والأنشطة الاجتماعية كأقران.[89]

ووضوح تداخل العصرين، الإقطاع والحداثة، لم يقتصر على نوع العمل الذي ينفذه المستعبد. فالواقع – حسب سيلفيا فيدريتشي – أنّ اللعب على الاختلاف حيلةٌ للإمبريالية الأوروبية والأغنياء بهدف التحكم والاغتناء.[90] ما ميز العصر الحديث من سابقه هو فصل العمل بين الأجناس، مجال المال والإنتاج للرجال، ومجال إعادة الإنتاج والعناية للنساء. وفي عمان تكفلت النساء المستعبدات حتى ذلك الحين بأعمال متنوعة، مثل التعبئة الصناعية وحمل الماء والمنسوجات والعمل الزراعي والتعدين، وكمحظيّات وفنّانات وخادمات منزليّات.[91] وكان المستعبدون يباعون غالبا في أسواق علنية ثلاثة أيام في الأسبوع، ووصلت إلى كل مساء أثناء العشرية الثالثة للقرن التاسع عشر، والأسواق ترامت في مسقط ومطرح وصور وصحار ونزوى،[92] وتقدر المصادر نسبة الرجال للنساء بين المستعبدين في بازار مسقط بـ 55 إلى 45، وفي سوق صور بلغت 60 إلى 40،[93] ما يناقض المغالطة التاريخية الراسخة بأنّ أغلب المستعبدين المستقدمين إلى العرب كانوا لأجل «الحريم».

بعد انقلاب آخر وصراع على السلطة وضعت الإمبريالية البريطانية وأموال التجار الهنود، تركي بن سعيد على عرش سلطنة مسقط وعمان في 1871. في ذاك الوقت كانت عمان تحاول أن تلبي الطلب العالي على تمورها في الولايات المتحدة وعلى لؤلؤها في فرنسا، وهذه الطفرة تصادفت مع ارتفاع عدد المستعبدين المستقدمين من شرق أفريقيا للعمل في النخيل،[94] عملٌ طبيعته تختلف عن المزارع الاستعبادية على الأطلسي، في كونه «موسميًّا ولم يستلزم عملًا مكثَّفًا».[95] وعلى ذلك يذهب بشارة استنادًا إلى معاينته صكوك الديون لتلك الفترة إلى أنّ المستعبَدين أنفسهم كانوا يستدينونَ للقيام بالزراعة، والزواج، وشراء عبيد آخرين.[96] ويضاف على ذلك ما يصفه ممداني بأنّ «السمة المعيارية للحياة اليومية» في المجتمعين ما قبل الحديث والحديث هي حضور العنف المستمر.[97] وهذا العنف «جزء لا يتجزأ من عملية الإنتاج والمراكمة» وهو ضروريٌّ أيضًا لحفظ الوضع الراهن.[98] تضمن الطبقة المالكة بالعنف المستمر إخضاع العوام وضبطهم في الفترتين القديمة والحديثة للحكم. وفي آخر عقدين من القرن التاسع عشر مرت عمان بإعصارين مميتين، فاحتاجت الطبقات الحاكمة للمزيد من العمل لإعادة البناء ورفع إنتاج التمور، لكن بريطانيا بدأت بتمشيط المحيط الهندي بذريعة محاربة النخاسة.

ومع انخفاض النخاسة من شرق أفريقيا انتقل الاستقدام إلى ساحل مكران في أثناء نفس فترة طفرة الطلب على لؤلؤ الخليج. ومن مناطق ساحل مكران كانت جسك وباهو ودشتياري ودشت هي المصادر الرئيسة لاستيراد المستعبدين إلى عمان،[99] وأغلبهم جيءَ بهم إلى ساحل الباطنة، مع أنّ استيطان البلوش لعمان بدأ منذ زمن بعيد،[100] وشغلوا مناصب الولاة والعساكر تحت اليعاربة في القرنين السابع والثامن عشر، وعاشوا في مناطق وقرى خاصة بهم في عمان، محافظين على لغتهم وتقاليدهم وأعرافهم البلوشية،[101] واستوعبَ عددٌ منهم محلّيًّا وتزاوج مع السكان المحليين، ما يؤشر على أنّ تاريخ العبودية متنوع جدًا والمستعبدينَ كانوا يتزوجون ويتناسلون، ولم يقتصروا على المخصيين.

وفي النصف الثاني للقرن التاسع عشر وحتى العقد الثاني للقرن العشرين، كانت مسقط ومطرح «أكبر مركزين حضريين» في شرقي الجزيرة العربية، وعمان الأرض ذات الكثافة السكانية الأعلى في المنطقة.[102] وفي عمان كان ساحل الباطنة المنطقة ذات الكثافة السكانية الأعلى في الخليج و«أكثف منطقة زراعية جنوب العراق» وأكبر منطقة منتجة للتمور على ضفاف الخليج العربي.[103] ليس من المفاجئ إذن أنّها احتوت «أكبر جالية أفريقية» في المنطقة.[104] وساحل الباطنة يمتد على طوال 240 كيلومتر، من كلباء إلى السيب. وفي الربع الأول للقرن العشرين، اشتهرت موانئ آل سعد في الباطنة بتجارة العبيد من بلوشستان. ومع بداية الكساد العالمي، وانهيار الطلب على تمور الخليج ولؤلؤه، وصعود النفط في محلهما، وجدت الرأسمالية شكلًا جديدًا للاستغلال.

يشكّل نظام الكفالة الذي أدخل مع طفرة النفط استمرارًا لمؤسسة العبودية إنما بشكلٍ حديث. وشبه القارة الهندية صارت المصدر الجديد للعمالة «الرخيصة» في المنطقة. وإنْ كان من الصحيح أنّ النظام الأنجلو-سلطاني في عمان ألغى العبودية في 1970، فذلك كان إجراءً ضدّ الثورة الشعبية التي منعت كافة أشكال العبودية والاستغلال ومؤسساتهما، فكان ذلك تهديدًا مباشرًا على مصالح الأغنياء – آل بوسعيد، والتجار الهنود، والإمبريالية البريطانية – واتكالهم على استغلال عمل العوام. وبالتالي فقد استبدل نظام الكفالة الأنظمة القديمة للعبودية بطريقة تضمن استمرار مؤسسة العبودية، إنما بما يتوافق مع دعاية الحداثة الغربية. واليوم يعمل الناس تحت نظام الكفالة في كافة أوجه الحياة دون حقوق تحمي إنسانيتهم. ومؤسسة العبودية – بالتالي – تظل قائمةً تضمن ثروة الأغنياء واستغلال عمل العوام.

خلاصة

في 1970 حين أعلنت حكومة قابوس – التي سلّطتها بريطانيا على عمان – إلغاء العبودية، لم يكن الهدف إلغاء كافة أشكال العبودية والخدمية، فهي استمرت بنحوٍ متوافق مع الحداثة وتحت مسمى نظام الكفالة ومن مصدر جغرافي جديد مختلف عن المصادر السابقة. وفي هذا النص ناقشنا وفندنا الثنائية الغربية للحرية/العبودية التي سطت على حقول التاريخ المتعلقة بعمان، الدراسات الإسلامية/العربية، والدراسات الخليجية، ودراسات المحيط الهندي. وهذه الثنائية شجعت رواية جامدة لتاريخ عمان المتنوع جدًّا بتوافق مع المركزية والفوقية للفكر والتاريخ الأوروبيين. وخلافًا لذلك ناقش هذا المقال للتاريخ العماني تحت حكم آل بوسعيد (1744-1970) بفحص التغيرات التاريخية الجارية على مؤسسة العبودية وتنوع المصادر الجغرافية للمستعبدين وتغير أشكال الإنتاج. ورجوعًا إلى بشارة وممداني حاول هذا المقال تفنيد الأحكام والمغالطات الاستشراقية والعنصرية لتاريخ العبودية في عمان، مثل رواج استعباد النساء، واقتصار الرجال المستعبدين على المخصيين، واقتصار العمل على إطار العبودية المنزلية. وراجعَ المقال الاتكال على الجنود والولاة المستعبدين كعماد لبناء حكم الدولة البوسعيدية حتى بداية القرن العشرين، الأمر الآتي من الرغبة في ولاء تام لسلطة الفرد الحاكم في وسط صراع لأجل السلطة وضد السكان المحليين.

 ومع طلوع الرأسمالية الحديثة وتشدد التنافس الإمبريالي الأوروبي في المحيط الهندي، أدخلِتْ العبودية «المتاعية» على المنطقة وفتحت شرق أفريقيا كمصدرٍ كبيرٍ للمستعبدين في القرن التاسع عشر، فازدهرت عمان تجاريًّا واقتصاديًّا ليستفيد من ذلك آل بوسعيد والتجّار البنيان الهنود والإمبريالية البريطانية، الذين اتكلوا على عددٍ كبيرٍ من المستعبدين الشرق أفريقيين من الجنسين، بما ينافي المغالطة التاريخية بأنّ الأغلبية استعبدت لأجل «الحريم». وفي أثناء هذه الفترة تداخل نظاما العبودية القديم والحديث، وهذا كان واضحًا في نوع الأعمال المقام بها.

ومع نهاية القرن التاسع عشر صارت عمان متصلة بالنظام الاقتصادي العالمي تحت السيطرة الاستعمارية البريطانية، وتزايد مع ذلك الطلب على تمور عمان ولؤلؤ الخليج. ولكن المعاهدة المناهضة للعبودية مع بريطانيا في 1873 أوقفت تدفق المستعبدين من أفريقيا تدريجيًّا، فصعدت بلوشستان لتسد العجز وظلت في مكانتها هذه حتى العشرية الثانية للقرن العشرين، حينما سدد الكساد العالمي ضربة قاضية للنخاسة في الخليج. ومع اكتشاف النفط وتزايد أهميته، أعلنت الثورة الشعبية العمانية إلغاء كافة أشكال العبودية والاستغلال، ما شكل تهديدًا للمصالح الإمبريالية البريطانية في النفط ومصالح آل بوسعيد في تراكم الثروة والاستغلال، واستجابةً لذلك دبرت بريطانيا انقلابًا في الحكم وبدأت حملة دعائية لكسب القلوب والعقول ضدّ الثورة، وإحدى جبهاتها كانت إلغاء العبودية (أي بالأحرى: نظامها القديم) دون المساس بالمؤسسة نفسها، فقد استبدلها نظام الكفالة نظامًا حديثًا للعبودية واستمرارًا للمؤسسة نفسها، لتنتفع منها الفئات نفسها: آل بوسعيد، التجّار البنيان الهنود، والإمبريالية البريطانية.


كلمة شكر: قدّم هذا البحث لمشروع التخرج بدرجة البكالريوس في التاريخ بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية (SOAS). أهديه إلى الجماهير الكادحة في عمان، أهلي وناسي. أشكر الرفيقات والرفاق من مجموعة عمان حرة على دعمهم ومشاركتهم المتواصلين في مرحلة سعينا للحرية. لإكمال مشروع كهذا، أدين بالفضل والشكر للدكتور مارك فاليري، من جامعة إكستر، لتزويدي بقائمة كتب مثرية حول التاريخ العماني، والدكتورة هنجماي زياي، مسؤولة البحث في (SOAS)، على التوجيه والدعم الأكاديمي وخصوصًا النظري، وأدين أيضًا بالفضل والشكر لمرشدتي  ومعلمتي الأولى أليشيا مورج على توجيهي للفكر الراديكالي والنظري، الذي منحني حياة ورؤية للعالم جديدة. وأشكر راتسيبلا ماكاماني وأسعد على دعمهم وتوجيهاتهم النظرية. كما أشكر الرفيق نصير على جهده في ترجمة ونشر هذا البحث إلى العربية ليصل إلى من يقصدهم هذا البحث.

محبتي وتضامني،

خلفان

[1] IOR/R/20/D/270, ‘Joint Force Commander Report on Operation Fate’, 11 November 1966, in Abdel Razzaq Takriti, Monsoon Revolution Republican, Sultans, and Empires in Oman, 1965-1976, (Oxford: Oxford press, 2013), 77.

[2] M. Reda Bhacker, Trade and Empire in Muscat and Zanzibar: Roots of British Domination, (London: Routledge, 1994), xxv, and Claude Merkovits, The Global World of Indian Merchants, 1750-1947: Traders of Sind from Bukhara to Panama, (Cambridge: Cambridge University Press, 2000), 16.

[3] Fahad Bishara, A Sea of Debt: Law and Economic Life in the Western Indian Ocean, 1780-1950, (Cambridge: Cambridge University Press, 2017), 22.

[4] Mahmood Mamdani, ‘Introduction: Trans-African Slaveries Thinking Historically’, Comparative Studies of South Asia, Africa and the Middle East (2018) 38 (2), 204.

[5] Edited by Gwyn Campbell, The Structure of slavery in Indian Ocean Africa and Asia, (London: Frank Cass Publishers, 2004), x.

[6] Aristotle, Aristotle’s Politics, (Oxford :Clarendon Press, 1905).

[7] Edward Said, Orientalism, (London: Penguin, 1978), 1-28.

[8] Edited by William Gervase Clarence-Smith, The Economics of The Indian Ocean Slave Trade in the Nineteenth Century, (London: SOAS & Frank Cass, 1989), 6.

[9] William Gervase Clarence-Smith, Islam and the Abolition of Slavery, (London: C. Hurst, 2006), 2.

[10] Beatrice Nicolini, Makran, Oman and Zanzibar Three-Terminal Cultural Corridor in the Western Indian Ocean (1799-1856), (Liden: Brill, 2004), 117.

[11] Ibid.

[12] Campbell, Structure of Slavery, xi.

[13] Frederick Cooper, Thomas C. Holt, Rebecca J. Scott, Beyond Slavery: Explorations of Race, Labor, and Citizenship in Postemancipation Societies, (Chapel Hill and London: The University of North Carolina Press, 2000), 9, and Edited by Edward A. Alpers, Gwyn Campbell, and Michael Salman, Resisting Bondage in Indian Ocean Africa and Asia, (New York: Routledge, 2007), 1.

[14] Edited by Gwyn Campbell, Abolition and its Aftermath in Indian Ocean Africa and Asia, (London and New York: Routledge, 2005), 11.

[15] See Edward A. Alpers, The Indian Ocean in World History, (New York: Oxford University Press, 2014), 105, Edward A. Alpers, East Africa and the Indian Ocean, (Princeton: Markus Wiener Publishers, 2009), 21, Abdul Sheriff, Slaves, Spices and Ivory in Zanzibar : integration of an East African commercial empire into the World Economy, 1770-1873, (Dar es Salam: Tanzania Publishing House, 1987), 4, Edward A. Alpers, Ivory and Slaves in East Central Africa: Changing Patterns of International Trade to the Later Nineteenth Century, (London: Heinemann Educational Books, 1975), 62-74, Jonathon Glassman, Feasts and Riot: Revelry, Rebellion, and Popular Consciousness on the Swahili Coast, 1856-1888, (London: James Currey, 1995), 51-2, Frederick Cooper, ‘From Slaves to Squatters: Plantation Labor and Agriculture in Zanzibar and Coastal Kenya, 1890-1925, (London: Yale University press, 1980), 2.

[16] Jerzy Zdanowski, Slavery in the Gulf in the First Half of the 20th Century: A Study Based on Records from the British Archives, (Warszawa, 2008), 20.

[17] Matthew S. Hopper, Slaves Of One Master: Globalization and Slavery in Arabia in the Age of Empire, (New Haven & London: Yale University Press, 2015), 14.

[18] Bishara, Sea of Debt, 22.

[19] Ibid., 8.

[20] Cedric J. Robinson, Black Marxism The Making of the Black Radical Tradition, (UK: Penguin, 1983), 9-16.

[21] Ibid., 49.

[22] Mamdani, ‘Trans-African Slaveries’,192.

[23] Ibid., 195.

[24] Bhacker, Trade and Empire, xxv.

[25] Mandana E. Limbert, In the Time of Oil: Piety, Memory, and Social Life in an Omani Town, (California: Stanford University Press, 2010), 136.

[26] Bishara, Sea of Debt, 30.

[27] Sheriff, Zanzibar, 20.

[28] Alpers, East Africa, 21.

[29] Bishara, Sea of Debt, 30.

[30] Sheriff, Zanzibar, 45.

[31] Limbert, Time of Oil, 137.

[32] Nicolini, Makran, 31.

[33] Ibid., 51.

[34] Limbert, Time of Oil, 137.

[35] Alpers, Indian Ocean, 105.

[36] Nicolini, Makran, 94.

[37] Bishara, Sea of Debt, 31.

[38] Zdanowski, Slavery in the Gulf, 32.

[39] Alpers, East Africa, 46.

[40] Bishara, Sea of Debt, 31.

[41] Merkovits, Indian Merchants, 17.

[42] Alpers, East Africa, 46.

[43] Limbert, Time of Oil, 138.

[44] Bishara, Sea of Debt, 108.

[45] Ibid.

[46] Ibid., 111.

[47] Ibid., 113.

[48] Zdanowski, Slavery in the Gulf, 32.

[49] Bishara, Sea of Debt, 204.

[50] Takriti, Monsoon Revolution, 28.

[51] Ibid., 16.

[52] Ibid., 31.

[53] Ibid., 23.

[54] Al-Mithaq al-Watani Lil Jabha al-Shabiya’, September 1968, in Takriti, Monsoon Revolution, 109.

[55] Bhacker, Trade and Empire, 9.

[56] Sheriff, Zanzibar, 19.

[57] Campbell, Structure of Slavery, xii.

[58] Sheriff, Zanzibar, 37.

[59] Campbell, Structure of Slavery, ix,

[60] Sheriff, Zanzibar, 83.

[61] Clarence-Smith, Indian Ocean Slave Trade, 65.

[62] Hopper, Slaves Of One Master, 39.

[63] Zdanowski, Slavery in the Gulf, 19.

[64] Ibid., 30.

[65] Sheriff, Zanzibar, 38,and Zdanowski, Slavery in the Gulf, 19.

[66] Campbell, Abolition Indian Ocean, 104.

[67] Limbert, Time of Oil, 137.

[68] Sheriff, Zanzibar, 37.

[69] Zdanowski, Slavery in the Gulf, 19.

[70] Hopper, Slaves Of One Master, 66.

[71] Sheriff, Zanzibar, 39, Zdanowski, Slavery in the Gulf, 16, and Hopper, Slaves Of One Master, 39.

[72] Zdanowski, Slavery in the Gulf, 38.

[73] Ibid.

[74] Campbell, Abolition Indian Ocean, 111.

[75] Zdanowski, Slavery in the Gulf, 90.

[76] Campbell, Abolition Indian Ocean, 113.

[77] Zdanowski, Slavery in the Gulf, 92, and Clarence-Smith, Islam & Abolition, 182.

[78] Takriti, Monsoon Revolution, 122.

[79] Limbert, Time of Oil, 143.

[80] Bishara, Sea of Debt, 2.

[81] Sheriff, Zanzibar, 19.

[82] Bhacker, Trade and Empire, 131.

[83] Clarence-Smith, Islam & Abolition, 93.

[84] Mamdani, ‘Trans-African Slaveries’,195.

[85] Ibid.

[86] Alpers, East Africa, 36.

[87] Mamdani, ‘Trans-African Slaveries’, 208.

[88] Ibid.

[89] Bishara, Sea of Debt, 50.

[90] Silvia Federici, Caliban and the Witch Women, the Body and Primitive Accumulation, (UK: Penguin, 2004), 61.

[91] Campbell, Structure of Slavery, xi.

[92] Bhacker, Trade and Empire, 130.

[93] Zdanowski, Slavery in the Gulf, 20.

[94] Ibid.

[95] Bishara, Sea of Debt, 49.

[96] Ibid.

[97] Mamdani, ‘Trans-African Slaveries’, 188.

[98] Ibid.

[99] Zdanowski, Slavery in the Gulf, 38-9.

[100] Nicolini, Makran, 6.

[101] Ibid., 20.

[102] Hopper, Slaves Of One Master, 24-5.

[103] Ibid.

[104] Ibid.

هذا المقال جزء من منشور  «جدل تاريخي: الدولة وعناصرها».

afac
Skip to content