الصراع السياسي الأيديولوجي وأثره على الهوية والأقليات في تونس

«الفصل الأول:

تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها.   

لا يجوز تعديل هذا الفصل.»

«الفصل الخامس:

الجمهورية التونسية جزء من المغرب العربي، تعمل على تحقيق وحدته وتتخذ كافة التدابير لتجسيمها.»

«الفصل الواحد والعشرين:

المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز.

تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريّات الفردية والعامة، وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم.» (دستور تونس عام 2014)

مقدمة:

إنّ التاريخ الطويل الذي بذلته تونس في موضوعة الحريات الفردية والمساواة، بِدأً من تشريعات تحرير «العبيد» عام 1846، وقانون عهد الأمان في عام 1857، مرورًا بدستور عام 1861، وما تلاه من صدور مجلة الأحوال الشخصية بالتزامن مع الاستقلال عام 1956، ودستور عام 1959، وصولًا إلى دستور عام 2014 كإحدى نتائج ثورة عام 2011، التي سعت، في ما سعت إليه، إلى تحقيق الحريات الفردية والحريات العامة، انعكس على قضايا من مثل صعود مظاهر الاستقلالية عن الجماعة والعائلة، وتغيّر العلاقة بالدين نحو الفردنة، وتنامي سيادة الفرد على جسده من حيث المظهر والحياة الجنسية.

في عالمٍ، يبدو موازيًا، للنخب السياسية التونسية ومشرّعي دستورها وأدواتها التنفيذية، يعيش ذوو البشرة السوداء في تونس العديد من حالات ومظاهر الإقصاء والعنصرية. تبرز هذه المظاهر، على مستوى الخطاب، من خلال وصفهم بـ «وصيّف» و«عبد منزلي» و«كحلوش» وجميعها تحمل معانٍ تحقيرية، إضافةً إلى «كنا نبيعكم ونشتريكم بالكيلو» و«لستم بتونسيين» و«أنتم تعيشون معنا بسلام». كما إنّه يوجد في قرية «جربة» مقابر خاصة لذوي البشرة السوداء، ومنفصلة عن مقابر ذوي البشرة البيضاء. كذلك، فإن الحافلات التي تنقل طلبة المدارس في قرية «القصبة» في محافظة مدنين منقسمةٌ لحافلاتٍ تنقل الطلبة البيض وأخرى تنقل الطلبة السود لذات المدرسة. وفي حالةٍ أخرى، يحتفي المجتمع التونسي بحالةٍ يغلب عليها الغرابة والتعجب، من ظهور إعلاميٍّ أسود للمرة الأولى على شاشة التلفزيون الحكومي التونسي في عام 2018.

يتعارض وجود هذه التمظهرات الإقصائية والعنصرية لذوي البشرة السوداء في تونس مع تصاعد الحريات العامة والفردية عند المجتمع التونسي، كما يتعارض ذلك، مع الروح التوافقية التي صيغَ فيها دستور عام 2014، الذي أُفتتحت توطئته بـ «إننّا باسم الشعب نرسم على بركة الله هذا الدستور». ولأنّ المشرّع ليس فقيهًا دستوريًا فحسب، بل سياسيًا يرسم معالم هويّة الدولة، يبرز لدينا الحاجة لفهم هذا التعارض بين السعي نحو التوافق السياسي والأيديولوجي العام لدى القوى السياسية التونسية، والذي بدوره يساهم في تصاعد الحريّات العامة والفرديّة، وبين تجاهل الأقليات وإقصائهم وتهميشهم.

هذا ما تروم الورقة إلى البحث فيه، إذ تتغيّا فهم مسار ما بعد الثورة التونسية عام 2011 وانعكاسه على التعدد الهوياتي في الجمهورية التونسية، متوسلةً أدوات علم الاجتماع التاريخي، كما تنتقل إلى دراسة تشكّل هوية السود في الجمهورية التونسية، استنادًا إلى تحليل فيلمٍ وثائقيٍّ يتناول موسيقى السود، بعنوان «السطمبالي: لحن التحرر من العبودية»، الذي يشكّل بدوره أحد سياسات الذاكرة التي يمارسها ذوو البشرة السوداء في تونس في وجه سياسات النسيان الممارسة ضدهم.

ما تعتقده هذه الورقة، أنّ النخب السياسية وصراعها على السلطة، لها تأثيرٌ مباشرٌ على قضايا الهوية والمواطنة ووضع الأقليات. والغاية من ذلك، إنما هي الاستدلال على أحد العناصر المؤثرة في هوية الدولة؛ الفواعل السياسية والصراع على السلطة. ودورها في تشكيل سياسات النسيان للأقليات، أو اجتراح سياسات الذاكرة للحفاظ على حقوق الأقليات.

لذلك، فإنّ قادم السطور يقدم مدخلًا – عامًا ومكثفًا – للأرض والحكاية والناس في تونس، ثم ينتقل لدراسة الفاعلية في الصراع على السلطة بين النخب ودورها في حصر مسألة هوية دولة الاستقلال في حدود ما هو محافظ وحداثي، ثم يذهب لدراسة سياسات ذوي البشرة السوداء المتزامنة مع ما سبق بغية الحفاظ على ذاتهم والسعي نحو إدماجهم في المجتمع التونسي دون ما يتعرضون له من استبعادٍ وتهميشٍ وإقصاء. وصولًا إلى سؤال «كيف أصبح التونسيون تونسيين؟» الذي طُرح من جديد بعد ثورة عام 2011، وما دار حوله من تجاذباتٍ وصراعاتٍ ساهمت في إعادة لفت الانتباه إلى مسألة الأقليّات.

تونس: الأرض والحكاية والناس

عبّر المنصف ونّاس عن الهوية التونسية بـ «الهوية المنفتحة على مجالات جغرافية وثقافيّة متباينة؛ إذ تجمع في الآن نفسه بين مرجعيّات حضاريّة وثقافيّة متباينة، مثل المتوسطية والعروبة والإسلام والإفريقية». في هذا التوصيف ما هو تكثيفٌ لمساراتٍ كبرى شكّلت ملامح الهوية التونسية، يقوم المسار الأول على المسار السياسي التأسيسي مع الفينيقيين، إذ أقاموا كيان الدولة والمدنيّة والحضارة بنظامٍ دستوريٍّ فريد، أما ثاني هذه المسارات، فهو المسار الديني مع العرب المسلمين، إذ أدخلوا المجال الثقافي والقيمي الإسلامي المتصاعد حينها إلى البلاد، وانتهاءً عند المسار الاقتصادي بوصفه إدماجًا لهذه الأرض العثمانية في المنظومة الرأسمالية العالمية في لحظة الاستعمار الفرنسي.

ما يعكسه ذلك هو إعطاء ما قبل الإسلام ثقلًا في بناء الهوية التونسية، على خلاف الكثير من التصديرات التي تقدم الفتح الإسلامي كبداية لتشكّل ملامح الهوية التونسية. على أنّ التقسيمات الاستعمارية الحديثة أدّت إلى نشوء الدولة الوطنية، وتقديم الخصوصيّات المحليّة على التجانس العام لدى العرب، ولفت الانتباه لها، على العكس من الفتح الإسلامي الذي ساهم، إلى حدٍ كبير، في تأخر بلورة الهوية التونسية الخاصة، من خلال ما يحمله من معاني التجانس بين الشعوب العربية والإسلامية؛ وحدة اللغة والدين والسردية، الذي بدوره يؤسس لهوية فوق-قومية.

إنّ موضوعة الأسلمة والتعريب التي حدثت في بلاد شمال إفريقيا، ساهمت في فصل شمال القارة عن جنوبها، وهو ما انعكس لاحقًا في خلق هوية مغاربية منفصلة عن القارة الإفريقية بالمعنى الجغرافي والثقافي والسياسي، وهو ما أذكاه الاستعمار الحديث من خلال التقسيمات الاستعمارية وخلق تصورات إقليمية جديدة للقارة الإفريقية. انعكس ذلك لاحقًا على العنصرية في تونس ضد السود، إذ إنّ العنصرية في تونس أعمق من اقتصارها على السود في تونس، فهناك عنصرية ضد كل مَن هو أسود قادم من جنوب القارة الإفريقية سواء للدراسة أو العمل في تونس.

أما في ما يتعلق بالحدود والشكل الجغرافي لتونس، فإنّ التراب التونسيّ لم يُحَدَّد إلّا في القرن السابع عشر ابتداءً من عهد يوسف داي، ثمّ نتيجةً لفضل الدولة الحسينيّة وصراعها مع دايات الجزائر من أجل رسم الحدود الترابية ومن أجل الانفصال عن السلطة المركزية التركية، إذ إنَّ البلاد التونسية تشكّلت نتيجة تقلّص إفريقيا القديمة التي امتدّت حدودها إلى أنحاء قسنطينة وطرابلس.

انتقالًا إلى مسار الهوية في تونس في مرحلة البحث عن الاستقلال، فإنّ للحركة الوطنية في وجه الاستعمار الفرنسي دورٌ أساسيٌ في طرح سؤال الهوية التونسية، إذ تصارع تياران حولها، الأول محافظٌ يتمثل في مؤسسة جامع الزيتونة (الزيتونيون)، أما الثاني فقد تمثّل بالعائدين من الجامعات الفرنسية والمنبهرين بالثقافة الفرنسية الحداثية. وفي لحظة الاستقلال فإنّ هوية الدولة المستقلة حديثًا شغلت أقطابها السياسية (المحافظة والحداثية)، فيما لم يكن للأقليات اليهودية والمسيحية والشيعية أو الأقليات من السود وغيرهم صوتٌ يمكن سماعه.

الفاعلية في الصراع على هوية الدولة التونسية

تعرضت الدولة الوطنية الناشئة بعد الاستقلال عن الأنظمة الاستعمارية الحديثة إلى النقد من جهاتٍ عديدة، فقد اعتبر الموقف القومي العربي الدولة الوطنيّة ناتجةً من إرادة التقسيم والتجزئة الاستعمارية، فيما حاربها الإسلامييون لأنها أتت على أنقاض الخلافة، أو لأنها لا تحكم بما أنزل الله، بينما واجهها الماركسيون بوصفها دولة الجماعة البرجوازية.

في السياق التونسي، بدأت بواكير الصراع بين نخب الحركة الوطنية على الدولة التونسية الوطنية تأخذ مستوياتٍ عدّة، تمثّل الأول في المعارضة الشديدة لهذه الدولة على إثر توقيع الحبيب بورقيبة على وثيقة الاستقلال الداخلي مع الاستعمار الفرنسي عام 1955، إذ إنّ صالح بن يوسف تزعّم مجموعةً معارضةً (سميّت لاحقًا باليوسفيين) ترى وجوب مواصلة الكفاح المسلح مع الاستعمار بعيدًا عن الحلول المرحلية، وبغية الحفاظ على الترابط مع حركتيْ التحرر في كلٍّ من المغرب والجزائر، وبناء علاقات مع مشروع جمال عبد الناصر القومي.

تحوّل الصراع إلى حربٍ دمويةٍ امتدت ستة أشهرٍ حُسمت لاحقًا لصالح التيار البورقيبي، فيما مثّل التيار اليوسفي نواة القومية العربية في تونس التي تنظر لدولة الاستقلال البورقيبية كدولة جماعةٍ مرتبطةٍ بالاستعمار، ولا تمثل إرادة الشعب التونسي ولا تدافع عن قضاياه الوطنية ومصالحه. على أنّ الزيتونيين اتخذوا ذات الموقف من دولة الاستقلال، إذ اعتبروها دولةً علمانيّةً حداثيّةً معارضةً للدين والبيئة الاجتماعية المحافظة.

في منحىً آخر، عارض اليسار التونسي الراديكالي، الناشئ في ستينيات القرن الماضي، والمتباين عن الحزب الشيوعي التونسي الذي اعتبر ذاته يتقاطع مع الدولة الوطنية في قضايا ويختلف معها في قضايا أخرى، الدولة الوطنية مركّزًا على مسألة التبعية الاقتصادية والاستغلال الطبقي. أما الحركة الإسلامية في تونس، الناشئة في سبعينيات القرن الماضي، فإنها ركّزت في رفضها للدولة الوطنية على البعد الثقافي والحضاري، واعتبرت دولة الاستقلال امتدادًا للاستعمار بوصفها دولة التيار التغريبي العلماني الذي يتمثّل مشروعه بتدمير الهوية والأمة.

على الرغم من إجماع مختلف التيارات السياسية على رفضها للدولة الوطنية في تونس، إلّا إنّ بورقيبة عمل منذ توليه حكم البلاد التونسية على تمكين رؤيته الحداثية وتطبيقها على المجتمع التونسي ضمن الدولة الوطنية الوليدة، وذلك من أجل تعزيز موقعه السياسي. كما عمل على تهميش الجنوب، الذي ينحدر منه اليوسفيون، وهو ما تمثّل بعدم إنشاء مشاريع تنموية للجنوب، وعدم دعمهم اقتصاديًا. الأمر الذي انعكس على الحالة المعيشية لذوي البشرة السوداء؛ ذلك أنَ الغالبية العظمى منهم تسكن منطقة الجنوب. وبذا فإنّ مسألة السود في تونس ليست مسألة أقليّات فحسب، بل هي صراع طبقي سياسي.

تنوّعت سياسات بورقيبة الحداثية التي ساهمت بإبعاد الهوية التونسية عن سياقها العروبي والإسلامي، إذ عمل من خلال جهازه الأيديولوجي المتمثل في الثقافة والإعلام والتعليم، على فرض اللغة الفرنسية على حساب اللغة العربية، لكنّه برر ذلك في خطابه «الانفتاح المزدوج على العالم» بأنّ تعلّم التونسيين للغة الفرنسية يهدف إلى الانفتاح على العالم كضرورة ثقافية، إضافةً لاعتباره قدرة اللغة الفرنسية على المساهمة في بناء شخصيةٍ وطنيةٍ تونسيةٍ وبناء ذهنيةٍ جماعيةٍ عصرية.

في سياقٍ آخر، سعى بورقيبة إلى بناء أمّةٍ قوميّةٍ من خلال تسويق الأيديولوجيا الوطنية تحت عنوان «القومية التونسية». لم تقتصر سياسات بورقيبة على ذلك، بل امتدت ليوظّف نفسه مجدِّدًا إسلاميًّا من خلال صبغ الإسلام بثوب الحداثة والعلمنة، إذ أصدر فتوى حول إمكانية إفطار رمضان بغية الحفاظ على إنتاجية الأفراد في سبيل بناء وتطوير الدولة، كما عمل على تحجيم دور مؤسسة جامع الزيتونة كمؤسسة تربوية، إضافةً إلى عمله على تهميش وإقصاء النخب الزيتونية لصالح النخب ذات التكوين الثقافي الأكثر تفرنسًا.

إنّ كل سياسات بورقيبة في مسألة الهوية التونسية وعلاقتها بالهوية العربية والإسلامية تمت في حين كان الفصل الأول من دستور البلاد عام 1959 ينص صراحةً على: «تونس دولة، حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها». وذلك ما دفع زين العابدين بن علي، بعد «الانقلاب الأبيض» على الحبيب بورقيبة عام 1987، لتبني شعار «مصالحة الشعب التونسي مع هويته»؛ أي الهوية العربية والإسلامية التي طُمِسَت في عهد بورقيبة.

وفي سياق رد الاعتبار للهوية العربية والإسلامية في تونس، عمل زين العابدين، منذ توليه الحكم، على إحداث وزارة للشؤون الدينية، إضافةً لإنشاء إذاعة دينية باسم الزيتونة للقرآن الكريم، كما أنشأ جامع العابدين في قرطاج بهندسةٍ تجمع بين الأصالة والتراث في محاولةٍ منه لصبغ المعمار بهوية محددة. كما عمل على تعريب الإدارة والتعليم. وهو ما يوضح انشغال زين العابدين في موضوعة هوية الدولة في بعديها الإسلامي والعربي على حساب غيرها من القضايا.

كما إنّ سياسات الحبيب بورقيبة الاستبدادية في ما يتعلق بحجب العمل الحزبي والعمل النقابي، حصرت فاعلية النخب المعارضة في حدود البحث عن الحريّات العامة المرتبطة بالمشاركة السياسية والعمل النقابي، إضافةً إلى موضوعة هوية الدولة، ما أدّى إلى إضعاف الاهتمام بالحريّات الفرديّة ومنها موضوعة الأقليات وتحقيق الاندماج التام مع المجتمع التونسي.

بالتزامن مع الصراع الأيديولوجي على الهوية، تصاعدت أصوات الأقليات، متحسسةً موقعها من الهوية التونسية، التي تعرضت إلى التهميش والإقصاء في بنية المجتمع التونسي، وفيما انشغل الساسة بالصراع على هوية الدولة، تفاقمت صور العنصرية وتصاعد تهميش الأقليات.

فن السطمبالي: لسان الحقيقة اللاذع

لا يقتصر الفنّ على إبداعيّته فحسب، بل يعكس حقلًا اجتماعيًّا بما يحمله من رموزٍ ودلالاتٍ تعكس العمق الثقافيّ والاجتماعيّ والتاريخيّ لقضايا الإنسان ومشكلاته السياسية، خاصةً عندما يرتبط بقضايا الهامش ومصائرهم. إذ إنّ الفنّ يستمد قوته وقيمته من ارتباطه بالمجتمع المنتِج له، ويترجم جزءًا من الواقع الثقافي والفكري للجماعة، كما يعكس قناعاتها وصراعاتها. في هذا السياق، تذهب الورقة إلى تتبع نشأة فن السطمبالي عند ذوي البشرة السوداء في تونس، ودوره كوسيلةٍ احتجاجيةٍ لإثبات الذات والبحث عن موقع هوية السود من الهوية التونسية، استنادًا إلى فيلمٍ وثائقيٍّ بعنوان: «السطمبالي: لحن التحرر من العبودية».

يأتي هذا الفيلم ضمن برنامج «حبر على الرصيف»، الذي تقدمه قناة الغد، وهو من إنتاج عام 2020، ومن إخراج ومونتاج شريف رامز وبتمويل من «MEDIA VISION». يستضيف البرنامج عددًا من أعضاء جمعية فن السطمبالي في تونس، إضافةً إلى علي سعيدان وهو باحثٌ في الثقافة الشعبية والموروث الموسيقي، وإبراهيم بهلول وهو باحثٌ في الموروث الموسيقي الشعبي، كما يعرّفهما البرنامج.

يقدم الفيلم مدخلًا للتعريف بأصول فن السطمبالي ونشأته، كما يبين مدى اندماج هذا الفن مع الموسيقى الصوفية في تونس، ويستعرض آلات السطمبالي ومعزوفاته.

نشأ السطمبالي منذ أكثر من تسعة قرونٍ في محاولةٍ للتحرر من قيود العبودية، كاحتجاجٍ على ما عايشه السود في أسواق النخاسة. إذ نشأ بدايةً من خلال طرق سلاسل الحديد المقيّدين بها أثناء نقلهم للمتاجرة بهم، مع إرفاقها بهمهمات الألم والغضب، كما إنّ أناشيد السطمبالي تقدم بلهجة «بالعجمي»، وهي ليست بما تعنيه انتسابًا إلى العجم، بل لهجةٌ خاصةٌ مرتبطةٌ بالمكوّن الروحيّ لعالم السطمبالي. في ذات السياق فإنّ علي سعيدان يصفه بـ «الخروج أو التمرد على المعيش المادي وكأنها رحلة افتراضية إلى الجذور باستعادة الإيقاع واستعادة الإنشاد».

لا يمكن قول الكثير حول فن السطمبالي، إذ إنّ معظم المخطوطات والوثائق التاريخية التي تشير إلى جذور هذه الموسيقى ونشأتها قد دمرت في عهد الاستعمار الفرنسي. لكن تتفق المصادر التاريخية على أنّ التكوّن التاريخي لتوطين هذه الموسيقى في تونس لم يقتصر على جذور استعبادية فحسب، بل اشتمل أيضًا مرحلة ما بعد الرق وإلغائه رسميًّا عام 1846؛ نتيجة قوافل التجارة العابرة لصحارى أفريقيا والمغرب العربي.

تعود إرهاصات هذا الفن إلى وجدانيات روحانية لدى الأفارقة في بداياتها وتحديدًا إلى جماعة سعد الشوشان أو بوسعدية، وهذا، ربما، ما يفسر قدرتها على الاندماج مع الصوفية التونسية لتكون لاحقًا إحدى روافد الموروث الموسيقي التونسي، إلّا إنّها تمكنت من الانفتاح أيضًا على ما هو أكثر من التصوّف. كما إنّ الباحثين اتفقوا على تسمية السطمبالي بالتقاليد البلالية، نسبةً لمؤذن رسول الإسلام «بلال بن رباح»، وهي محاولةٌ لمغربة تعابير السود وتهريبها من الفضاء الإفريقي على حد وصف الباحث علي سعيدان، ومحاولةٌ للبحث عن ارتباطٍ ما مع الهوية الإسلامية.

إذًا، يكشف هذا الفيلم الوثائقي عن نشأة فن السطمبالي كفن احتجاجي على الاستعباد من جهة، والتيه الهوياتي من جهةٍ أخرى، إضافةً لتبيان قدرة هذا الفن على الاندماج بالموسيقات الأخرى بحيث أصبح من روافد الموروث الموسيقي التونسي. عند هذه النقطة، نعود لرؤية هذا الفن كوسيلةٍ للتعبير عن الذات في التاريخ الحديث للسود في تونس، وكصوتٍ يبحث عن انصهاره التام في المجتمع الذي يعيش فيه، بعيدًا عن ما يتعرض له من إقصاءٍ وتهميشٍ وعنصرية.

اجترح ذوو البشرة السوداء سياسات ذاكرةٍ جديدةٍ بعد ثورة عام 2011؛ إذ تطورت سبل الاحتجاج وأسئلة الاندماج لديهم، على إثر النقاش الواسع الذي أعاد سؤال الهوية إلى فضاءات الساسة التونسيين، والذي تمثّل بوجود فواعل جديدة في الصراع على هوية الدولة مقارنةً بالفواعل في الصراع على هوية الدولة الوطنية لحظة الاستقلال. إذ إنّ الشباب ومؤسسات المجتمع المدني بوصفها قوى منخرطة في الثورة تمكّنت من إعلاء صوتها في مسائل عديدة مرتبطةٌ بالحريات والهويات.

سؤال الهويات بعد ثورة عام 2011

شكّلت الثورة التونسية عام 2011 بداية القطيعة مع دولة الاستبداد من جهة، وبداية القطيعة مع الدستور الذي قامت عليه دولة الاستقلال من جهةٍ أخرى، إذ إنّ فواعل المجتمع التونسي السياسية بمختلف تياراتهم الأيديولوجية (الإسلامية والقومية واليسارية والليبرالية) نظرت إلى دولة الاستقلال ودستورها كتكريسٍ لحصر السلطة، في يد نخبة علمانية بالمنظور الإسلامي والقومي من شأنها أن تمسّ بالهوية العربية والإسلامية كقيمة حضارية وثقافية، وفي يد نخبة برجوازية تقصي طبقات المجتمع بالمنظور اليساري، إضافةً إلى اتفاق التيارات الأيديولوجية المتنوعة على استبداديّة دولة الاستقلال ومنعها للحريات العامة والحريات الفردية سواء خلال فترة حكم بورقيبة أو خلال فترة حكم بن علي.

إنّ الوفاق الأيديولوجي على استبدادية دولة الاستقلال، دفع نحو حتمية الانخراط في الثورة عليها، لكنه لم يكن كافيًّا للإجابة على سؤال هوية الدولة التونسية المبتغاة، إذ إنّ سؤال الهوية في تونس، تصاعد على ثلاث موجاتٍ منذ ثورة عام 2011 وحتى نهاية عام 2020.

تمثلّت أولى تلك الموجات في ما حدث من تهجّمٍ على دور السينما والعروض الفنية والمقاهي المفتوحة في شهر رمضان بعد ثورة عام 2011، وهو ما أعاد النخب السياسية إلى سؤال الهوية الذي طرح عام 1956 لحظة بناء دولة الاستقلال.

تجادلت التيارات الإسلامية والعلمانية والليبرالية بشأن هوية الدولة، ونتيجةً لجهود مؤسسات المجتمع المدني في قيادة مفاوضات بين التيارات السياسية المختلفة، تمكنت من الوصول إلى صيغة توافقية ترضي الأطراف جميعها بالحد الأدنى مما يرضيها، وهو ما انعكس على دستور عام 2014.

لكنّ ذلك لم يكن كافيًا أيضًا لحسم مسألة الهوية على صعيد ما هو يومي لدى المجتمع التونسي أو على صعيد المؤسسة الرسمية، إذ إنَّ قرار وزير الشؤون الدينية تحفيظ القرآن في المدارس في أثناء العطلة الصيفية، قوبل برفضٍ صارخٍ من التيارات الليبرالية والعلمانية، وهو ما أعاد سؤال الهوية مرةً أخرى للجدال.

كذلك، فإنّ تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة في تونس، الصادر في الأول من شهر آب عام 2018، والمتضمن لقضايا المساواة في الإرث بين الجنسيْن، وإلغاء تجريم المثليّة إضافةً للعديد من القضايا المرتبطة بالحريات الفردية، أعاد سؤال الهوية من جديد، ففي حين يرى الإسلاميون ذلك اعتداءً على دين الدولة الذي نصّ عليه الدستور، فإنّ العلمانيين يعتبرون هذه القضايا منسجمة مع ما جاء به الدستور في ما يتعلق بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة، وجزئية الضوابط المتعلقة بالحريات الفردية.

يعكس ذلك بشكلٍ واضح أزمة الهوية المرادة للدولة، كما يعكس وهم الوفاق السياسي. فإن قاد ذلك للانخراط في الثورة ضد الدولة الاستبدادية، فإنّ الصراع الهوياتي يجرف بالتيارات السياسية نحو قضايا محسومة دستوريًّا بدلًا من الالتفات إلى سؤال الاقتصاد الذي يهدد شرائح كبيرة من مكونات المجتمع التونسي.

لم يقتصر سؤال الهوية على ما هو سياسي أيديولوجي فقط، بل إنّ ما حققته ثورة عام 2011 من حريّات سواء من خلال الضوابط التي نصّ عليها الدستور حول مسألة الحريّات العامة، أو مسألة اللامركزية التي تناولها بغية عدم تهميش مناطق من أجل مناطق أخرى داخل البلاد، ساهم في انتباه ذوي البشرة السوداء إلى اللحظة التاريخية التي يتوجّب عليهم استغلالها بغية اكتساب حريّاتهم التي تعزز من اندماجهم التام في المجتمع دون التعرض للإقصاء والتهميش سواء ارتبط ذلك بأماكن سكناهم في جنوب البلاد الفقيرة، أو بما هو مرتبطٌ بالعنصرية المبنية على العرق ولون البشرة.

وهو ما تمثّل بالعديد من المبادرات والوقفات الاحتجاجية ضد العنصرية، مثل «مسيرة المساواة ومناهضة العنصرية ضد السود في تونس» التي خرج فيها مئات السود والعديد من مؤسسات المجتمع المدني من قرية جربة وانتهت في العاصمة. وهو ما تمثّل أيضًا بإنشاء العديد من المؤسسات والجمعيات مثل جمعية «منامتي» للدفاع عن حقوق أصحاب البشرة السوداء في تونس و«أصيلات» و «آدم للمساواة والتنمية».

ساهمت جميعها بالضغط على الحكومة التونسية لتشريع قانون في عام 2018 يؤسس لمحاربة التمييز العنصري، من خلال تعريفه وتحديد العقوبات على ممارسيه، وتحديد حقوق المتعرضين له، كما إنّه ألحق بالوزارة المكلفة بحقوق الإنسان لجنة تسمى: «اللجنة الوطنية لمناهضة التمييز العنصري» وكان ذلك القانون قُدِّمَ إلى البرلمان من خلال مجموعة من جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني في عام 2016.

أما في ما يتعلق بفن السطمبالي ودوره السياسي والاجتماعي بعد ثورة عام 2011، فقد أسست جمعية «ثقافة السطمبالي: سيدي علي لسمر» التي بدورها تسعى إلى الحفاظ على ما تبقى من هذا الفن الاحتجاجي، كما تسعى إلى نشره من خلال تنظيم الاحتفالات في مختلف المدن التونسية. إضافةً إلى مطالبتها وزارة الثقافة التونسية بإحداث مهرجان ترعاه وزارة الثقافة لتعريف العالم بفن السطمبالي، على غرار مهرجان «قناوة وموسيقى العالم» الذي يعقد سنويًا في المغرب.

عكست ثورة عام 2011 مزيدًا من التقدم في موضوعة الأقليات، وتحركّت العديد من المؤسسات لمناهضة العنصرية، لكنّ تلك الحركات لم تتمكن من الخروج عمّا هو حدثٌ مناسباتيٌ للتذكير بمسألة الأقليات والعنصرية. وما يجب الانتباه له في هذا السياق، أنّ كلّ تقدّمٍ في الحريات الفردية عند المجتمع التونسي، يبقى منقوصًا في ظل ما يعصف بالأقليات من صورٍ للعنصرية، وإنّ ما تنجزه الدولة على صعيد الحريات الفردية عليها أن تسائل نفسها إن كان ذلك ينطبق على أصحاب البشرة السوداء أم لا.

خاتمة:

اتخذت الورقة مساريْن لفهم موقع هوية السود من الهوية التونسية، يقوم المسار الأول على دراسة دور الفواعل وفاعليتهم في الصراع على هوية الدولة، وانعكاس ذلك على ذوي البشرة السوداء خلال مرحلتيْن تاريخيّتيْن للدولة التونسية؛ دولة ما بعد الاستعمار عام 1956، ودولة ما بعد الثورة عام 2011، وقد تبيّن أنّ للفواعل في الصراع على هوية الدولة دورٌ أساسيٌّ في تناسي أو لفت الانتباه للأقليات.

إذ إنّ حصر مسألة هوية دولة الاستقلال عام 1956 بين الحداثيين والمحافظين، وما تبع ذلك من سياسات استبدادية ساهم في تهميش قضايا الأقليّات، أما في لحظة دولة ما بعد ثورة عام 2011 فإنّ العودة إلى سؤال الهويّة في ظل وجود فواعل شبابيّة ومؤسسات المجتمع المدني، ساهم في لفت الانتباه إلى مسألة الأقليات وقضاياها.

بينما ذهب المسار الثاني لدراسة سياسات الذاكرة التي استخدمها ذوو البشرة السوداء بغية حمايتهم من العنصرية والتهميش. وقد تبيّن أنّ الفواعل السياسية في مرحلة دولة ما بعد الثورة عام 2011 ساهمت في خلق سياسات ذاكرة جديدة من شأنها أن تعلي من صوت السود كأقليّة تتعرض للعنصرية والتهميش.

[1] لقراءة دستور تونس لعام 2014: https://legislation-securite.tn/ar/law/44137

[2] الحمروني، سلوى. «الحريات الفردية والمساواة في تونس: بين عهد الأمان ونصوص حقوق الإنسان». مجلة عمران، العدد 32 (2020):13-26.

[3] المليتي، عماد. «التحولات الاجتماعية والحريات الفردية لدى الشباب في تونس: أي علاقة؟». مجلة عمران، العدد 32  (2020):27-40.

[4] «ذوو البشرة السوداء في تونس.. مواطنون من الدرجة الثانية؟». السفير العربي. https://assafirarabi.com/ar/3462/2013/06/19/%D8%B0%D9%88%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B4%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D8%A1-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3-%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B7%D9%86%D9%88%D9%86-%D9%85%D9%86/ (تاريخ الوصول: 22-12-2020).

[5] زبيس، حنان. ««أسود البشرة وأفتخر»: بعد تجريمها قانونياً هل ستتمكن تونس من الحد من العنصرية؟» درج. https://daraj.com/5907 (تاريخ الوصول: 22-12-2020).

[6] وناس، المنصف. الشخصية التونسية: محاولة في فهم الشخصية العربية. تونس: الدار المتوسطية للكتاب، 2011.

[7] ابن تمسك، مصطفى. الهوية التونسية بين الانتقاء التاريخي والازدواج الدستوري. مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، العدد 12، 2018: 92-104.

[8] اللطيفي، عفيفة. «أزمة الهوية في تونس: من هم الأفارقة؟». منشور.https://manshoor.com/society/tunisia-african-identity/.(تاريخ الوصول 25-12-2020).

[9] بن عاشور، عياض، الضمير والتشريع. تونس: المركز الثقافي العربي، 1998.

[10] بلقزيز، عبد الإله. الدولة والمجتمع: جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2008.

[11] الحبيّب، سهيل. «الثورة على دولة الاستقلال، وماهية التحول الديمقراطي في الفكر الأيديولوجي التونسي المعاصر». مجلة عمران، العدد 6 (2013):125-144.

[12] المديني، توفيق. تاريخ المعارضة التونسية من النشأة إلى الثورة: الأحزاب القومية واليسارية والإسلامية. تونس: مسكيلياني للنشر والتوزيع، 2012.

[13] الغنوشي، راشد. من تجربة الحركة الإسلامية في تونس. تونس: دار المجتهد، 2011.

[14] مولّى، علي الصالح. «أي إمكانية لإنتاج إسلاموية متونسة؟». مجلة تبيّن، العدد 12 (2015):63-90.

[15] الذوادي، محمود حبيب. «في محددات الهوية الجماعية وإشكالياتها: المجتمع التونسي الحديث نموذجاً». مجلة المستقبل العربي، مج 19، ع 217 (1997):29-50.

[16] لقراءة وثيقة دستور تونس عام 1959: https://www.constituteproject.org/constitution/Tunisia_2008.pdf?lang=ar

[17] اللولب، حبيب حسن. «الهوية المغربية بين التأسيس والتأصيل والإقصاء: البلاد التونسية نموذجاً. رأي اليوم. https://redirect.is/97sddtj (تاريخ الوصول: 28-12-2020)

[18] بورديو، بيير. قواعد الفن (ترجمة إبراهيم فتحي). القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012.

[19] لمشاهدة فيلم «السطمبالي: لحن التحرر من العبودية»: https://redirect.is/a8jd2j9.

[20] «السطمبالي التونسي: سجع السلاسل ورنين الأصفاد». معازف.https://redirect.is/ifmbo3j (تاريخ الوصول: 28-12-2020).

[21] البوبكري، عمر. «ظهور فكرة الدستور وتطورها في تونس». مجلة تبيّن، العدد 3 (2013):75-86.

[22] العلي، زيد. «دستور تونس الجديد: تحليل سياقي. مجلة سياسات عربية»، العدد 18 (2016): 119-132.

[23] «صراع الهوية المفتعل في تونس». صحيفة الوطن القطرية. https://redirect.is/qipy2ph.(تاريخ الوصول: 4-1-2021).

[24] لقراءة قانون التمييز العنصري لعام 2018: https://redirect.is/2o3u7nz.

هذا المقال جزء من منشور  «جدل تاريخي: الدولة وعناصرها».

afac
Skip to content