إعادة «اختراع» الشرعية: عن آليات «إنتاج الولاء» في «دولة قيس سعيد»

تتجلى السلطة ضمن شكل محدد سلفًا في شكل أجهزة وقوانين وتشريعات، لكن ذلك الشكل لا يمكن أن يدير بكفاءة عملية الهيمنة. سيكون خاويًا أو مجوفًا دون وجود الحد الأدنى من الولاء للقطاع الأوسع من السكان. ذلك أن الدولة، لا يمكن أن توجد واقعيًّا دون حالة الطاعة/الولاء، التي تسمى قانونًا بـ «الشرعية»، تجمع بين السلطة والسكان، كي تتمكن من إدارة العلاقات والمجال. ثم إن هذه الحالة يجب أن تتسم بطبيعة رضائية إلى حد ما، كي تقوم السلطة بإدارة هيمنتها على نحو خالٍ من العنف المفرط. هذه العملية التفاعلية، تحتاجها أي تشكيلة اجتماعية حاكمة، حيث لا يمكن أن يستمرّ حكمها دون عملية إعادة الإنتاج المادي والاجتماعي، التي لا تحدث في المصنع أو في السوق، بل داخل أطر الهيمنة والتي يسميها لويس ألتوسير «الأجهزة الإيديولوجية».

في تونس اليوم يبدو المشهد غائمًا. ويبدو من الصعب الإمساك بمقاربة أو أداة تحليل يمكن أن تحلل النهج السياسي للرئيس قيس سعيد – بوصفها حاكمًا مطلقًا – غير المقولة الشعبوية، التي تبدو قاصرة عن تحليل علاقة الرجل بالدولة، بما هي جهاز، وبالدولة بما هي علاقة بين السلطة والسكان. ويزيد من ذلك الغموض غياب الأدبيات السياسية للرئيس وأنصاره، عدا بعض الخطب والمقابلات الصحفية، التي تتضمن شذرات. وكذلك السلوك السياسي اليومي للرئيس من خلال القرارات التي يتخذها.

يسعى هذا المقال إلى محاولة تحديد طبيعة العلاقة بين نظام قيس سعيد والدولة وتمثله للعلاقات مع السكان، من زاوية آليات إنتاج الولاء التي يسلكها، ومن خلال ذلك يعود المقال إلى تاريخ إنتاج الولاء في تونس المعاصرة (1956 – 2010). ودون إدعاء اليقين، فإن مسعاه الأخير محاولة بناء صورة تقريبية للشرعية الشعبية التي يريد قيس سعيد اختراعها، بوصفه نموذجًا شعبويًّا شديد الدلالة.

إنتاج الولاء وإعادة إنتاجه في تونس المعاصرة

كانت طبيعة الشرعية التي يمتلكها الحاكم في تونس قبل الاستقلال مستمدة أساسًا من لاهوتي، حيث كان الباي يستمد رضاء المحكومين من كونه حاكمًا راعيًا للمقتضيات الشرعية للأمة وممثلًا للسلطان، خليفة المسلمين. هذه الطبيعة كانت دائمًا ترفدها شرعية القوة والقمع، التي حسمت جميع الهبات الشعبية ضد سلطة المركز، والتي كانت أساسًا منطلقة من أطراف المملكة وأقاصيها. وحتى بعد قدوم الاستعمار وخضوع البلاد إلى نظام الحماية (1881)، بقيت سلطة الباي الرمزية ذات وقع وجداني في نفوس السكان، بوصفها البقية الباقية من شرعية رثة. لكن الاستعمار، بالقدر الذي أراد فيه الحفاظ على سلطة الباي الشكلية لتوظيفها في مشروع الهيمنة، إلا أنه أحدث رجةً هائلةً في طبيعة الوجدان الشعبي. في تلك اللحظة برز – ضمن شروط موضوعية – شعور بالذاتية التونسية، أو ما يمكن أن يسمى تجاوزًا في ذلك الوقت «الوطنية التونسية»، الذي تطور ليبلغ ذروته في عشرينات القرن الماضي مع ظهور الحركة الوطنية (حزب الدستور القديم)، ثم أخذ ذلك الشعور في التطور حتى بلغ حالةً من النضج التام في الثلاثينات مع بروز جيل جديد من قيادات الحركة الوطنية من ذوي التعليم الحديث والإنتماءات الطبقية الشعبية، وقد تجلى ذلك في حزب الدستور الجديد.

في هذا السياق من تشكل «الوجدان الوطني» بدأت النخب الجديدة في التخلي علاقات الولاء القديمة مع السلطة الرمزية للباي، الذي تحول مع الوقت في عيون القطاع الأوسع من الشعب إلى مجرد تابع للاحتلال (باستثناء فترة قصيرة من حكم المنصف باي 1942 – 1943). وبعد الاستقلال (1956) تسلمت هذه النخبة الجديدة السلطة – بوصفها حركة تحرر وطني – وإعادة بناء الدولة على أساس جديد، من زاوية نزوعها الحداثي. حيث فككت الأساس المادي للطبقة الحاكمة القديمة (تحالف الأرستقراطية مع المؤسسة الدينية)، من خلال علمنة التشريعات وإلغاء الأوقاف وتأميم الملكيات الزراعية الكبرى وتعميم التعليم على جميع فئات الشعب ومناطقه. كانت هذه التحولات الاجتماعية بالضرورة دافعًا إلى تحولات جذرية في عملية بناء الولاء والشرعية، بين الدولة الجديدة وسكانها. وكان الحبيب بورقيبة واعيًا منذ البداية بالتحولات التي طالت الوجدان الشعبي التونسي، ومؤمنًا – بوصفه وضعيًا عتيدًا – أن الدولة هي من تصنع الأمة وليس العكس كما هو سائد عربيًا، لذلك كان يكرر في خطبه أنه صنع الأمة من «غبار أفراد متناثر»، وواعيًا أكثر بأن «الشرعية التحررية» لا يمكن أن تكون كافيةً لبناء علاقة ولاء رضائي بينه وبين السكان. لذلك قامت عملية إنتاج الولاء في عهده على ركيزتين أساسيتين:

الأبوية: نزعت لحظة الاستقلال السحر عن السلطة، فقد سقطت قدسية الحاكم على أساس ديني من وجدان التونسيين كما تسقط أوراق الخريف. نزل الولاء من السماء إلى الأرض. بيد أن القدسية لم تكف عن الحضور في هذه الشرعية الأرضية، حيث أصبح قائد مسيرة التحرير/ المجاهد الأكبر / السيد الرئيس مقدسًا على نحو أبوي عند الهزيع الأخير من حقبة الاستعمار. تفطن الرئيس الحبيب بورقيبة باكرًا إلى هذا الاستعداد اللاواعي لدى قطاعات واسعة من الأهالي لتسليم زمام أمرهم للأب القائد، مقابل الرعاية، في نوع من رفض الفطام. لذلك توجه مباشرةً بعد الاستقلال إلى المراهنة التاريخية على التغيير الفوقي، عبر جهاز الدولة، فقام بربط مشروع التحديث المجتمعي بالسلطوية الأبوية، مبررًا ذلك بقصور فهم الشعب عن إدراك لحظة التقدم التاريخي، معتبرًا أن تأميم الصراع الاجتماعي وقمع الحركة الحرة للناس خارج سلطة الدولة السبيل الوحيد نحو الوحدة الوطنية، حتى أنه يتعجب في إحدى خطبه الكرنفالية، نهاية ستينات القرن الماضي، من وجود فكرة «المعارضة»، محذرًا من أنها ستقود حتمًا إلى انقسام المجتمع والاحتراب الأهلي. على الشاكلة نفسها الذي يتعجب فيها الأب من وجود عصيان داخل العائلة، فالمعارضة هنا ليست إلا نوعًا من «العقوق» بمعناه الأخلاقي والديني المقدس.

المقايضة الطبقية: الآلية الثانية، والأشد مركزيةً، في صناعة الولاء كانت المقايضة الطبقية. بعد الاستقلال كانت الأوضاع الاقتصادية في تونس شديدة التخلف، في ظل انتشار الفقر والأمية، باستثناء وجود طبقة أقلية محظوظة من بقايا الأرستقراطية التونسية العتيقة أو كبار الملّاك، الذين ارتبطت مصالحهم على مدى عقود مع سلطة الاحتلال الفرنسي. بدأت السلطة الجديدة في بناء نظام سياسي شموليّ يجمع في يد واحدة السلطة والثروة، واستقر هذا النظام بشكل تام في حدود العام 1964، حيث تحوّل الحزب الاشتراكي الدستوري إلى قائد للدولة والأمة، وتم حلّ جميع الأحزاب السياسية، وإلحاق المنظمات النقابية والفئوية (المرأة، الشباب، الطلبة) بالحزب. هذا النموذج من التنظيم السياسي، الذي كان سائدًا في الجمهوريات العربية خلال حقبة ما بعد الاستعمار المباشر، كان يتطلب بناء قاعدة اجتماعية للنظام، وهي الطبقة الوسطى، وهذه الطبقة تحتاج في مقابل استدامة هذا الولاء والدعم سياسات اجتماعية وتحقيق جزء من توقها للعدالة الاجتماعية. لذلك، توجهت الدولة نحو بناء قطاع عام من خلال قيامها بنفسها بعملية التراكم الرأسمالي، كما فككت البُنى الإنتاجية القديمة وطوّرت بُنى رأسمالية جديدة زراعية وصناعية، وتكفلت بالقطاعات التداولية والتوريد والتصدير والزراعة، والأهم من كل ذلك تطوير منظومة رعاية اجتماعية تقوم على مجانية التعليم ومجانية الصحة، وقطاع نقل بأسعار رمزية، ومجانية الثقافة وتوسيع نطاق نشرها.

كان النظام في ذلك الوقت واعيًا بضرورة إنتاج نخب جديدة لدعم أجهزة الدولة الإيديولوجية (التعليم، الثقافة، الدين)، وتزامنًا مع انعقاد «مؤتمر المصير» (المؤتمر العام للحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم) في العام نفسه، تم إقرار نظام الحزب الواحد ضمنيًا نحو سياسة اشتراكية إصلاحية سُميت حينذاك بـ«التعاضد». خلال هذه الحقبة، ارتبطت الشرائح الوسطى في تونس، من موظفي الجهاز الإداري للدولة وصغار الكسبة وصغار الفلاحين بالدولة على نحو قوي، من خلال نوع من المقايضة الطبقية؛ بحيث تقايض الرعاية الاجتماعية لهذه الطبقة السائدة اجتماعيًا، في مقابل حصولها على الولاء وتوطيدها دعائم النظام. وكان الاتحاد العام التونسي للشغل هو الجسم الذي يشغل دور الوسيط بين الدولة وقاعدتها الاجتماعية، والراعي لهذه المقايضة الطبقية السلطوية.[1] ورغم الهزات التي تعرضت لها هذه الآلية إلا أنها بقيت تعمل بكفاءة إلى حدود العشرية الأولى من القرن الحالي.

لم تحدث في عهد زين العابدين بن علي (1987 – 2010) تحولات جذرية في اليات السلطة لإنتاج الولاء، باستثناء ضمور مسألة «الأبوية» التي كان بن علي عاجزًا عن إنتاجها بوصفه لا يملك القدرات الشخصية ولا التراكم التاريخي، الذي امتلكه بورقيبة في سياقات فريدة. لكن بن علي رفع من شأن «شرعية القمع»، حيث أصبح الولاء في جزء كبير منه مستمدًا من الخوف. وقد بدا ذلك واضحًا في تضخم قدرات ومقدرات وأدوار الجهاز الأمني وتعدد فروعه والتحول من نظام سياسي يقوده الحزب الواحد إلى دولة أمنية تديرها الأجهزة القمعية والاستخباراتية. لكن هذا النزوع إلى تفضيل علاقات الطاعة القائمة على الخوف مقابل ما كان سائدًا من علاقات ولاء رضائية في عهد بورقيبة هو الذي سرعّ باهتراء آلية المقايضة الطبقية وتاليًا قاد بشكل حثيث إلى الثورة، التي دشنت عهدًا جديدًا من طبيعة الوجدان الشعبي تجاه السلطة. لئن مثل الاستقلال لحظة سقوط الشرعية اللاهوتية للحاكم وانقلاب 7 نوفمبر 1987 لحظة سقوط الشرعية الأبوية للحاكم، فإن ثورة 2011 نسفت ما تبقى من حواجز نفسية داخل الوجدان الشعبي تجاه السلطة، كل تلك البقايا الباقية من مشاعر الطاعة والولاء والخوف والقداسة الأرضية سقطت وأصبحت إعادة بنائها أمرًا مستحيلًا. أمام تفشي حالة مديدة من السخرية من الحكام في وسائل الإعلام وفي شبكات التواصل وفي المقاهي، وحالة أكثر تفشيًّا من تحدي الأجهزة الأمنية دون خوف. أصبحت قدرة أي حاكم على إعادة إنتاج «الطاعة» صعبةً وتحتاج فائضًا من القمع لا أحد يستطيع تحمله حاكمًا أو محكومًا. خاصة وأن هذه الحالة من التحرر قد دامت أكثر من عشر سنوات ورسخت في الوجدان وأصبحت جزءًا من تفكير وسلوك عموم السكان، بل إن جيلًا كاملًا من الشباب قد تفتح وعيه السياسي خلالها، ولم يعد يتصور نفسه في إطار آخر غير الندّية مع السلطة ورموزها.

الشعبوية وإعادة اختراع الشرعية

خلال الطور الأول من حكمه (2019 – 2021) شيد قيس سعيد شرعيته على أساس قانوني واضح، باعتباره رئيسًا منتخبًا وفقًا لدستور 2014. لكنه خلال هذه الفترة لم يختبر ولاءًا مباشرًا من طرف الشعب، بوصفه رئيسًا لا يملك سلطات تنفيذية تتعلق بمصالح السكان المباشرة، وفقًا لتقسيم السلطات في الدستور. لكنه اختبر ولاءًا شعبيًّا واضحًا في الشوارع وعلى وسائل التواصل بوصفه رئيسًا بصدد مقاومة «الإئتلاف الحاكم» وباعتباره «النظيف وسط غابة من السياسيين الفاسدين». كانت عاطفة قطاع واسع من الشعب متوافقة مع الميول الشعبوية للرئيس، والتي برزت بشدة في الحملة الإنتخابية 2019 وترسخت لاحقًا بعد الوصول إلى السلطة.

كان الحاجز السميك الذي يضعه دستور 2014 بين قيس سعيد (القائد الشعبوي) وشعبه (الحقيقي) العدو الرئيس لسعيد، على الرغم من أنه يستمد شرعيته من خلاله. لكن سعيد – رغم النزعة القانونية الظاهرة التي يصدرها – إلا أن الشرعية القانونية آخر همه، فالشعبوية متجاوزة لهذا النوع من الشرعية في سياق سعيها الحثيث نحو «الشرعية الشعبية الحقيقية»، تلك الشرعية المشيدة على النقيض من «النخبة الفاسدة». لذلك لم يتأخر في يوليو 2021 عن تعطيل الدستور وتأويله تأويلًا محرفًا تمامًا كي يحسم أمر السلطة ويزيح خصومه ويلتحم بـ «الشعب الحقيقي»، كون تصوره للسياسة يقوم أساسًا على تقسيم أخلاقي للصراع: الشعب الحقيقي بقيادة القائد الشعبوي في مواجهة النخبة الفاسدة. وقد نجح إلى مدى بعيد في حشد الناس معه لأسباب تتعلق بالسياسات التي سلكتها القوى الحزبية التي حكمت بين 2011 و2021، حيث شيد شعبيته ليس على أساس طبيعة برنامجه السياسي بل على أساس فشل برنامج خصومه السياسي، وهي منهجية مفيدة في المدى القريب. وهو بذلك يؤسس عملية إنتاج الولاء على:

الخَلاصية المفارقة: يبدو قيس سعيد عاجزًا عن إعادة إنتاج نموذج «الأبوية البورقيبية» الذي كان سائدًا ومفيدًا في بناء علاقات الولاء. لكن بوصفه شعبويًّا نجح في بناء نموذج القائد المخلص الملتحم بعموم الشعب والمتعالي في الوقت نفسه عن التقسيمات التي تشق هذا الشعب وخاصة للطبقات الاجتماعية. كان واضحًا منذ انقلاب 25 يوليو النزعة البونابرتية للرئيس في التسامي على جيمع الطبقات، أو الزعم بذلك، حيث لا يمكن أن تكون السلطة معلقة في السماء دون سند اجتماعي. عبر الخطب والشعارات يعلن الزعيم الشعبوي نفسه قائدًا «للشعب الحقيقي» ويدعو مواطنيه إلى التقدم بروح جماعية، لتجاوز أنفسهم من أجل الاندماج في الروح الجماعية، لنقل رغبتهم في الخلاص إلى شخصية غير عادية. هذا النمط من الولاء يتطلب قدرًا من الافتتان والتعالي، لأن الصلة بين الرئيس والشعب يجب أن تكون عاطفية أكثر منها أيديولوجية. إن طريقة التظاهر هذه كممثل مباشر للشعب تظهر شيئًا مثل الرغبة في الحصول على شرعية الاستفتاء، نتيجة المواجهة المباشرة بين القائد والجماهير. وهو ما حصل في استفتاء 25 يوليو الماضي. كما تتميز هذه الخلاصية المفارقة بروح القوة ولهذا الغرض يتميز سلوكه الخطابي بـ «الانفعالات»، وصيغ الصدمة، والتعامل مع التجاوزات السخرية أو اللفظية.

ومع ذلك، يجب أن يُظهر أن إرادة السلطة هذه ليست في خدمة طموح شخصي ولكن في خدمة المصلحة العامة، مصلحة الشعب. لذلك فهو يتظاهر بأنه الضامن للهوية المستعادة: إما منقذ للهوية الوطنية (يصبح سياديًا)، أو مدافعًا عن هوية أبناء الجهات المهمشة (يصبح أبويًا). وبما أنه يتمسك بفكرة أن القوى المعارضة تعارض بناء مشروعه الشعبي، فإنه يتظاهر بأنه منتقم يدعو إلى كراهية هؤلاء الأعداء الذين يتحدث عنهم دون أن يحددهم. لذلك يعلن عن رغبته في الانفصال عن الممارسات السياسية في الماضي: ممارسات الطبقة السياسية الفاسدة. لهذا السبب يمكننا القول إن قيس سعيد بوصفه شعبويًّا نموذجيًّا، وإن لم يكون مرتبطًا بالفكر الديني، فإنه يقدم نفسه كنوع من المنقذ، قادر على سكب غضبه على الأشرار كما يقود إلى السعادة القصوى. حيث يتجلى خطابه وفقًا للترتيب السردي للقصة على ثلاث مراحل: وصم الشر، ثم عملية التطهير، وأخيرًا التحول الجذري والفوري – الإعجازي – للمجتمع.[2]

ترقيع المقايضة الطبقية: الأساس الثاني الذي يحاول قيس سعيد من خلاله بناء علاقات ولاء مستدامة مع الشعب – وخاصة مع الطبقات الوسطى – هو إعادة بناء المقايضة الطبقية مع تعديلات تناسب التحولات التي طرأت على شكل المقايضة وأطرافها. يبدو الأفق الاقتصادي للرئيس وأنصاره خاويًا. على مدى أكثر من عام من الحكم لم يقدم أي مبادرة أو قرارات مهمة تخص الاقتصاد ومنوال التنمية القائمة، رغم النقد الذي يصرح به تجاهه. عدا مشروع قانون الشركات الأهلية والصلح مع رجال الأعمال الفاسدين. لذلك يسعى إلى إعادة إنتاج مقايضة طبقية مع الطبقة الوسطى – التي مازالت تمثل القاعدة الاجتماعية للنظام – من خلال كسب ولاء الاتحاد العام التونسي للشغل والعودة إلى نموذج التنمية القائم على التخصص في الصناعات التصديرية منخفضة التكنولوجيا، الذي كان سائدًا في عهد بن علي، والذي تكتسب فيه بشكل أساسي قدرتها التنافسية في الأسواق الدولية من استخدامها الوفير للعمالة غير الماهرة منخفضة التكلفة وتمويل أجزاء من هذا المشروع بالديون والمساعدات الأوروبية والأمريكية، عبر مقايضة مسائل كالأمن ومكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية. بيد أن ذلك ليس مضمونًا، خاصة وأن التدهور الحاصل على مستوى أوضاع الطبقات الوسطى والبنية التحتية الصناعية في البلاد سيكون من الصعب تجاوزه بمجرد إعادة إنتاج منوال تنموي قديم. كما تطرح حالة التقشف، المفروضة من صندوق النقد الدولي، ثقلًا اجتماعيًّا على النظام لن يكون سهلًا، وربما لن ينتهي إلا في أفق ثوري عبر حركات اجتماعية وانتفاضات شعبية.

تمكين البيروقراطية: لا يمكن فهم دور تمكين البيروقراطية في صناعة الولاء للنظام بشكل مباشر. لكن سياسة سعيد في تمكين البيروقراطية منذ انقلابه تساهم بشكل غير مباشر في صناعة علاقات ولاء، بوصف الدولة مجموعة الأجهزة الرسمية التي تدار من خلالها شؤون المجتمع، فإن سعيد أولًا يعزز علاقات الولاء عبر السيطرة على هذا الجهاز القوي وما يعنيه ذلك في الوجدان الشعبي العام وخاصة في وجدان قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى التي تعمل لدى الدولة (موظفي الدولة والقطاع العام) ومن طبقة الأعمال التي تستفيد من الدولة (تبيع للدولة). وثانيًّا، من خلال تمكين البيروقراطية الأمنية والعسكرية وتعزيز علاقات الولاء بعلاقات مضاعفة من الطاعة والخوف. لكن أي مجتمع، بقدر ما تكون العلاقات بين الأفراد والجماعات داخله غير متكافئة، هو بالضرورة فريسة للصراعات التي تهدد وجوده ذاته. على هذا النحو، فإنه يفرز تنظيمًا للسيطرة قادرًا على احتواء العداوات بالقوة ضمن الحدود اللازمة لإعادة إنتاج النظام الاجتماعي. وهكذا تبدو السياسة كمجال لتنظيم النزاعات من خلال القيد المنظم. لكن القدرة على تقييد، القوة، لا تقتصر على السمات المادية لقوة تتفوق على الآخرين. في الواقع، لا يمكن احتكار القيد على المدى الطويل دون حد أدنى من استيعاب ضرورته من جانب المهيمن عليه. هذا البعد الثاني للسياسة – القيد الضروري – هو إضفاء الشرعية على الهيمنة من خلال ارتباط السلطة، صاحبة وسائل الإكراه، مع مجموعة من الرموز والمعايير والقيم التي تتجاوز النزاعات. بسبب المنطق المزدوج لاستمرارية الصراع وضرورة التماسك، فإن التمثيل سيجمع بين جانبين: التعبير عن المصالح الخاصة وإضفاء الشرعية/عدم شرعية السلطة بالرجوع إلى الرموز والقيم والمعايير التي تشكل صورة مجردة.[3]


هل سينجح قيس سعيد في كل ذلك؟ حتى الأن يستفيد سعيد إلى حد بعيد من سياق دولي ملائم. يقايض دول الضفة الشمالية للمتوسط حول ملفي الأمن والهجرة ويجني مقابل ذلك دعمًا سياسيًّا وماليًّا، من خلال المساعدات أو الدعم في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. كما أنه يستفيد من حالة السيولة التي تعيشها المعارضة. ويستفيد أيضًا من غياب أي بديل في الأفق يمكن الالتفاف حوله. ويعيد تدوير سردية فشل خصومه على نحو مستمر. قيس سعيد ما زال يتصدر استطلاعات الرأي. الرجل لا يُجهد نفسه لكنه يُصيب هدفه. لا يفعل الرئيس شيئا إلا الخطابات واللقاءات لكن شعبيته جيدة قياسًا ببقية الشخصيات في المشهد وجيدة قياسًا للمجهود الذي تبذله شخصيات أخرى مثل عبير موسي وقياسًا بالحالة الكارثية اقتصاديًّا واجتماعيًّا. على ذلك النحو التاوي الذي رسخه لو تسو في كتاب «التاو تي-تشينغ» بقول مكثف: «لأنه لا يجهد نفسه يُصيب هدفه». لكن هذه النزعة اللاتدخلية في مسار الأشياء لن تكون ذات فائدة على المدى البعيد.

[1] نظيف، أحمد. «الطبقة الوسطى «تصنع مُخلّصها»: كيف صعد قيس سعيّد وكيف تمكّن؟». حبر، 5 يناير 2022. https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%b5%d8%b9%d8%af-%d9%82%d9%8a%d8%b3-%d8%b3%d8%b9%d9%8a%d9%91%d8%af-%d9%88%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%aa%d9%85%d9%83%d9%86%d9%91/

[2] Truan, Naomi. (2019) Talking about, for, and to the People: Populism and Representation in Parliamentary Debates on Europe. Zeitschrift für Anglistik und Amerikanistik.

[3] Michel Camau – Tunisie au présent. Une modernité au-dessus de tout soupçon ? Sous la direction de Michel Camau. Editions du CNRS, Paris, 1987.

هذا المقال جزء من منشور  «جدل تاريخي: الدولة وعناصرها».

afac
Skip to content