تغيير كل شيء: أسس الإضراب النسوي في إسبانيا وتحدّياته

«لسنا هنا لنسير يومًا واحدًا كل عام، أو لنكون كوتا أخرى في أجهزة السلطة، أو أن يصفق لنا ونحن نسير، بينما يبقى النظام الذي يبقي اضطهادنا متماسكًا. ولهذا السبب نلجأ إلى الإضراب: لأنه أقوى أداةٍ لدينا لإيقاف كل شيء وتغيير كل شيء». – بيان ألقي في 8 آذار/مارس، أثناء مظاهرة في ساراغوسا.

من الصعب التصديق أنه لم يمر سوى عامٌ ونصف منذ 2017م. فخلال هذه الفترة البسيطة، تمكنت الحركة النسوية من تغيير كامل الخارطة السياسية في إسبانيا – والخارطة السياسية هنا لا تقتصر على اللعبة الحزبية الانتخابية، بل تشمل المساحات والديناميات الاجتماعية، والعلاقات الكلية للقوة، والعقلية السائدة، وعمومًا، الأطر التي تفسَّر بها هذه العمليات. في آذار/مارس 2019م، يصعب إنكار كون النسوية تشكّل فاعلًا سياسيًا مهمًا.

أمامنا سيناريو معقد، سمته الأساسية الفوضى العالمية ومحاولات الطبقات الحاكمة الحفاظ على امتيازاتها في عالمٍ متهالك. في بلدان الطرف الأوروبي، ومنذ 2008م، كان معنى ذلك تطبيق سياساتٍ تحرم عموم الناس من الحقوق والحريات، ولا يقف ذلك عند الممارسات القمعية فحسب، بل يجري إخضاع كافة جوانب الحياة إلى تسديد الدين الخارجي، وتحميل المجتمع ككل خسائر المصارف والشركات الكبرى. وفي هذا السياق تفجَّرت الحركة النسوية، بعد سنين من «الأزمات الاقتصادية»، ومع الزعزعة المعيشية التي يعاني منها جيل كامل، والكسر النهائي للاتفاقيات الاجتماعية لسنواتٍ من الطفرة العقارية، وانحسار معتبر للحركات الاجتماعية. بعد سنتين من التعبئة المستمرة، من المهم أن نفكر بالظروف التي أتاحت هذه الظاهرة، ونفكر بتداعياتها المحتملة. وتحليلٌ كهذا هو الشرط المسبق لمنع تبدد قوّتنا المتراكمة، وهو الشرط المسبق لاستخدام هذه القوة لتنمية الأفق الأوسع للتحويل الاجتماعي، أفقٌ قد تصنع واقعًا من مقولة «وضع الحياة في المركز».

1. البدايات: النقابية الاجتماعية وتأنيث المظاهرات

«في أي دفاع عن حقوقنا، سنكون إلى جانب أي نقابة؛ لكن إن خذلونا، فسيجدوننا في المقدمة» – ميريام برّوس، رئيسة اتّحاد الكيليّات (الخادِمات).

«ظلّ الفصل بين العمل والحياة نقطة ضعفٍ في الحركات الاجتماعية» – بياتريس غارسيا، منصة المتأثرين بالقروض العقارية.

في مستهل 2014م، ملأت جدران المراكز الاجتماعية والحانات اليسارية في مدريد ملصقات كبيرة وصغيرة، تحمل شعار: «إن كانت مدريد لا تنتج، فمدريد لا تستهلك». قامت كوكا كولا بتسريحٍ جماعي أعلنت المحكمة لاحقًا عدم مشروعيته، لكن الشركة رمت 350 عاملًا إلى الشارع وهددت بإقفال المعمل في فوينلابرادا. كانت حملةُ المقاطعة متواضعة في البداية لكنها سرعان ما انتشرت، والفضل يعود لعنصرٍ رئيس: عسكرت 180 امرأة، رفيقات وبنات وأقارب العمّال، أمام المصنع. سُمِّيت هؤلاء النسوة بالإسبارطيات، إشارةً إلى ثيرموبيلاي.

بعد فترة في تشرين الأول/أكتوبر 2016م، أعلِن إنشاء اتّحاد الكيليّات. تعمل الكيليّات، أو منظِّفات الفنادق، بأجورٍ أقل من ثلاثة يورو للغرفة، ويعانين من آلامٍ وأمراض مزمنة ناتجة عن هذا العمل، وفي ذلك الشهر أعلنَّ تنظيم أنفسهن. يتشابه تنظيم الكيليّات، وأغلبهن نساء مهاجرات، وكلّهن تقريبًا أمّهاتٌ لأسرٍ يعتنين بها، مع غيره من رابطات تنظيم العمّال المنزليّات وعمال العناية، مثل المنطقة المنزلية، (مدريد) وتجمّع العمّال المنزليّات والعنائيات (ساراغوسا)، وأسست هذه التنظيمات شبكةً وطنية. تكشف مطالب هذه الشبكة – وهي: الإقرار بالحقوق والحمايات الاجتماعية، والمساواة في حقوق الضمان الاجتماعي – عن صراعٍ يتجاوز ظروف العمل المباشرة، فهي تشكّل ما تسميه جوديث كاريراس «النضالات النقابية في إعادة الإنتاج الاجتماعي»: نضالاتٌ عمّالية تقودها وتنظمها نساءٌ تعملن، علاوةً على عملهن في الدفاع عن الحقوق العمالية ومطالبتهن بالكرامة لقطاعات العمل المؤنثة، على فضح التقسيم الجنسي للعمل والأزمة الاجتماعية العنائية وتناقض رأس المال والحياة.[1]

ارتبطت أشكال الصراع هذه، على هذا النحو، بما عُرِف بـ «النقابية الاجتماعية» تيمنًا بحركة الغضب (Indignados): نضالاتٌ تمحو الحدود بين العمل والحياة، وتنشر مفاهيم أوسع للعمل، وتركز على عمليات الحرمان – وكل ذلك يجري في لحظة أزمة معمَّمَة (اقتصادية وسياسية وبيئية) تتّسع إلى خارج سوق العمل، وتخضِع كافة جوانب الحياة إلى المراكمة الرأسمالية. والمثال الأوضح للنقابية الاجتماعية هو منصة المتأثرين بالقروض العقارية والمجالس الإسكانية ونقابات المستأجرين الجديدة، وتَتشاركُ المنصةُ معَ الإسبارطيات واتّحاد الكيليّات وعمّال الرعاية نقطةً أخرى هي القيادة النسائية. لهذا التأنيث للاحتجاج أسبابٌ واضحة: بسبب دورهن الاجتماعي المحدد، تعد النساء أكثر المتأثّرين بالهجمات على الحياة، وأكثر من عبّأ الجماهير للتصدي للصعوبات المتعاظمة لإعادة إنتاج الحياة. يستحيل فهم الأشكال الفعلية التي اتخذتها الحركة النسوية في إسبانيا دون هذه الترسّبات السابقة، التي تغذّي ممارستنا، وتؤثر على مخيلتنا السياسية. لستُ أطرح هنا علاقةً سببية مباشرة بين تلك الترسبات وممارستنا، بل أؤمن أنَّه من الممكن تأكيد كون الإضراب النسويهو، إلى حدٍّ ما، التعبير الأكمل للنقابية الاجتماعية، حتى هذه اللحظة.

2. ما هو هذا الإضراب النسوي؟

الإضراب بصفته زخم، الإضراب بصفته عملية، الإضراب بصفته بُنْية. كان هنالك تردد منذ اللحظة الأولى حول تسمية الإضراب (وتسمية أنفسنا). لم تكن تسميةُ الموقع الإلكتروني للحركة بـ «نحو الإضراب النسوي» تسميةً عبثية، فهي تشير إلى البناء الاجتماعي المستمر لشكلٍ جديد للصراع، يتجاوزُ المفهومَ الكلاسيكي للإضراب العام، وتاريخَ 8 آذار/مارس تحديدًا، حيث نُجْري تجاربًا مع أشكال مرنة للتنسيق الداخلي قد تمكننا من التصدي للتوتر بين الوحدة والتنوع.

تعمل لجنة 8 آذار/مارس كشبكة وطنية تعبّر عن المجالس النسوية في أرجاء البلاد، مُحْترِمةً استقلال العمليات المحلية ومحاوِلةً توفير أفقٍ وتوجّهٍ مشترك لهذه الكوكبة من المجموعات. تكمن نقطة القوة الرئيسة لشكل التنظيم هذا في بُعدها التفرّعي، الذي يترجم إلى طيفٍ متّسع من العمليات المحلية والإقليمية من التنظيم الذاتي والتسييس وتكوين الشبكات من القاعدة فصاعدًا. نتج عن ذلك شبكةٌ مكثّفة من التكوينات المنظَّمة الذاتيًا، تتضمن المجالس والجماعات القديمة، وتتيح وتمكّن تشكّل مجموعاتٍ جديدة في القرى والأحياء والمدن التي كانت فيها النسويات، حتى وقتها، مشتتات، بما يدفع بتجاه تكوين أحياز حركة وحدوية في مناطق غلب عليها التشظِّي سابقًا.

الإضراب النسوي بصفته بنية هو، قبل كل شيء، ماكينة مهولة للفكر الجمعي والمعرفة الجمعيـة. ومثالٌ جيد على ذلك هو الاجتماعات الوطنية التي عقدت منذ إطلاق لجنة 8 آذار/مارس نهاية 2017م، والتي تستضيف ما بين 500 و600 امرأة. لكونها الجهاز الرئيس للمناظرات الجمعية واتخاذ القرار في الحركة، فكل اجتماع يستلزم شهورًا من التنظيم المسبق بمجموعات عمل وطنية، حيث تشارك شخصٌ أو شخصين من كل إقليم، حسب الرغبة. من المهام التي تؤديها جماعات العمل هي شرح النصوص المقروءة للاجتماع، وجمع المقترحات والمساهمات البرنامجية من الأقاليم، وتفصيل توليف الهموم والمواقف الأساسية المنبثقة عن المجالس، وتفصيل الوسائل وتدوين محاضر الاجتماعات.

تطوُّر التجمعات الوطنية هو انعكاس لتطور الإضراب النسوي نفسه. لا يقتصر ذلك على التحسينات البديهية في القدرة والإمكانيات التنظيمية، بل ويشمل تقدّمًا مهمًا في المناظرات: خلال عامٍ ونصف، تَقَدّمنا لنصل لأبواب نقاشاتٍ برنامجية واستراتيجية جدّية، وألحقنا قطاعات العمل المؤنَّثة في النضال، مع بناءِ تحالفاتٍ مع غيرها من الحركات، مثل الحركة البيئية الاجتماعية والحركة السياسية المناهضة للعرقانية.

هنالك بالطبع توتّراتٌ وتناقضاتٌ لم تُحَل بعد. طريقةُ عمل اللجنةلا تتيح الاستجابة السريعة، وغيابُ المبادرات أو الحملات المشتركة، ما عدى مسيرة 8 آذار/مارس، يترك بروز الحركة وأثرها السياسي في يد المقاطعات الأقدر على البروز، مثل مدريد، مما يعزز نموًا غير متكافئ قابلٌ للمفاقمة. يضاف على ذلك انتقاداتٌ وُجِّهَت للجنة 8آذار/مارسأثيرت العام الماضي، من قِبَل تجمّعاتٍ للجاليات المهاجرة والناس المعرقَنْات/ين، بينت قصور الحركة فيما يتعلق بشملِ قطاعاتٍ معينة من النساء من نساء الطبقة العاملة. لكن تأسيس مجموعة عمل وطنية للنساء المهاجِرات، وإدراج إغلاق مراكز احتجاز المهاجرين والمهاجِرات وإبطال قانون الهجرة في المطالب المركزية لإضراب هذا العام، يشير إلى توجّهنا نحو مسارٍ إيجابي.

3. ضد النسوية المؤسسية، وبالتالي، النسوية الليبرالية

تجاوزَ نجاحُ 8 آذار/مارسلعام 2019م حتى توقعاتنا الضخمة، بل وحتى إنجازَ اليوم التاريخي لعام 2018م، وهذا النجاح لم يكن فقط عدديًا: إنّه يؤكد أن إعادة تسييس اليوم العالمي للنساء لا يمكن إيقافها.

العام الماضي، دفعت حداثة النداء الإعلام السائد للمداومة على تغطية تجهيزاته ودفعت أغلبيةً اجتماعية متنوعة لتعرِّف نفسها بالنسوية. كان للمتحدِّثات والمتحدِّثين عن الحراك ظهورٌ إعلامي شبه يومي على شاشات التلفاز وفي الصحف الرئيسة. تجادل الحزب الشعبي وحزب مواطنون حول أيّ جهة هي الأكثر دفاعًا عن «مساواة النساء». وقررت بعضُ أشهَر الشخصيات النسائية من قنوات الأخبار والصالونات السياسية الانضمام إلى الإضراب بالمشاركة في مقاطعة الإعلام.

لم يحدث أيٌّ من ذلك هذا العام، فقد سبب الإيضاح الاستراتيجي لتوجه الحركة، والتقدم في محتوى برنامجها، حجبًا إعلاميًا نسبيًا حتى آخر الأيام السابقة لـ 8 آذار/مارس. وصف الحزب الشعبيبيانَ حركة 8 آذار/مارس تعييبًا بالبيان «المناهض للرأسمالية» وبمشروع «اليسار الجذري»، وخَتمَ بأنه لن يشارك في الدعوة للمظاهرات. ومع ذلك، فالأرقام تتحدث عن نفسها: مظاهرة قوامها 350 ألف متظاهرةٍ ومتظاهر في مدريد، و260 ألفًا في برشلونة، و200 ألف في ساراغوسا. يقدِّر اتحاد العمال العام مجمل المشارِكات والمشاركين في الإضراب بحوالي ستة ملايين. يبدو أنَّ المشاركة في الحركة ودعمها تضاعفا رغم تزايد جذريتها، أو لربما بسبب ذلك.

خلافًا لفرنسا أو الولايات المتحدة، لم تكن هنالك نسوية ليبرالية مهيمنة لتضطر حركتنا في إسبانيا لمواجهتها، فالسمات التاريخية-الاجتماعية المحددة للبلاد منعت تكوين شريحةٍ معتبرة من النساء تحمل قوّةً ثقافية أو اقتصادية حقيقية: إسبانيا، كما نعرف، لم تخرج من الديكتاتورية الفاشية إلا مع نهاية السبعينات، وحتى عام 1981، كان لازمًا على النساء أخذ تصريحٍ من أزواجهن للعمل، أو الحصول على الراتب، أو فتح حساب مصرفي، أو الحصول على رخصة قيادة. وفي الفترة التاريخية المعروفة بالانتقالة الإسبانية، والتي شهدت سيروراتٍ النضال الاجتماعي كبيرة، برزت النسوية كفاعلٍ جذري وتعبوي جماهيري مهم، مما منع تكوين قطاعٍ نسوي ليبرالي.

 كان الحزب الاشتراكي، الذي أعلن انتصارهُ الانتخابي عام 1982م انتهاء فترة الانتقالة وتدشين عهدٍ جديد، الطرف المستفيد من ذلك، فقد تمكن من تفكيك القدرات والإمكانيات التحويلية للحركة بتبنيه إجراءاتٍ سريعة استجابت لحاجاتٍ حقيقية وكان لها أثرٌ إعلامي قوي (مثل الإلغاء الجزئي لتجريم الإجهاض عام 1985م)، وتعيين عددٍ من نساء الحركة النسوية في مناصب إدارية مهمة، ونفّذ افتتاح أقسام دراسات الجندر في الجامعات بقية العمل. نتج عن ذلك ما يعرف اليوم باسم «النسوية المؤسسية»، وهي طراز نسوي قريب من التيار الديموقراطي الاجتماعي الإسباني، يستند إلى مزيجٍ من الإصلاحات القانونية مع السياسات الرمزية، وإلى افتراض أن أي تغيير ممكن يجب أن يجري عبر القنوات المؤسسية. والإدارة الحالية مثالٌ جيد على ذلك، فهي أول حكومة في تاريخنا عدد النساء فيها أكثر من الرجال.

عملت النسوية المؤسسية كنسوية مهيمنة لأربعين عامًا في الدولة الإسبانية. اعتقد البعض أن الانفجار النسوي الجديد سيخدم الحزب الاشتراكي، فهو الآن في الحكم ويواجه وضعًا انتخابيًا معقدًا. سعت حكومة سانشيز – التي في 2017م وافقت على ميثاق الدولة للقضاء على العنف الجندري الذي لم يطبق ولا حتى جزئيًا – لاستخدام الحركة لكسب الشرعية الاجتماعية، وحاولَتْ – أي: الحكومة – الظهور بمظهر الترابط مع الحركة أثناءَ عملها على تبديد قوتها التحويلية. بعد 8 آذار/مارس 2018م، حاولت بعض فصائل الحركة إقناع لجنة 8 آذار/مارسبالشروع في حوارٍ مع الحكومة دون جدوى، فقد رفضت الحركة النسوية تخفيض قوّة مطالبها إلى بضعة إجراءاتٍ مقبولة رسميًا لدى المنظومة القائمة، وفضَّلت الحفاظ على استقلاليتها وجذريتها والإبقاء على وجودها في الشارع. شرحت نوريا آلاباو وماريسا بيريز كولينا مؤخرًا النقلة التي جرت على استراتيجية الحزب الاشتراكي: حاول الحزب الاشتراكي تقسيم الحركة، لعدم قدرته على الاستحواذ عليها وامتصاصها، وذلك بمحاولة توظيف الخلافات حول بعض المواضيع. ومثالٌ جيد على ذلك هو الضوء المسلّط على نقاش العمل الجنسي، وهي أحدُ نقاط النزاع التاريخي لدى الحركة. نشأت مجموعاتٌ منظمة من النساء في الاجتماعات الوطنية المعقودة في فالينسيا، وفي لجنة 8 آذار/مارسفي مدريد، حاولت فرض منظورها في هذا الموضوع بما يتوافق مع بيانات الحكومة التي تساوي النسوية بالإلغائية وتنكر تنوّع التحليلات، مما ولد حالة توتر مزمنة في المجالس استمر شهرًا ونصف. لكن منهجية العمل التي وظفتها الحركة النسوية، وهي منهجية مستندة إلى البحث عن التوافق وبناء أحياز ديموقراطية ودّية، مكّنتها من عزل هذه المجموعات، ومنعها من التأثير على التحضيرات للإضراب.

في المقابل، طوّر حزب مواطنون استراتيجيته الخاصة، بصورٍ وخطابٍ يذكّر بالرئيس الفرنسي ماكرون. حاول حزب آلبيرت ريفيرا الإمساك بفكرة النسوية الليبرالية وبادر بمحاولة بنائها في الدولة الإسبانية. من الصحيح أن هذه المحاولة كانت مثيرةً للسخرية، مثل محاولة الحزب استخدام شخصية كلارا كامبوامور، الشخصية الأساسية في الحركة الاقتراعية. في 8 مارس/آذار، عقد مواطنون حفلًا في مقرّه الرئيس في مدريد، ومنذ ذلك اليوم، وضع على أحد جدران المقر الخارجية «أنا ليبرالية» – وهو شعارُ كارا كامبوامور. لكن، بعيدًا عن السخرية، يجب أن نبقى على حذر واحتراس من هذه الخطوات، لِتبيانها وجود وعيٍ وإدراك بالطرق المتخذة لتقييد وتقويض النسوية التحويلية في البلدان الأخرى.

وبالتالي، يكون الإضراب النسوينفسه في تعارضٍ مع النسوية المؤسسية والنسوية الليبرالية. فاستنكار الإضراب النسوي المزدوج للرأسمالية الأبوية والرأسمالية العنصرية، ونقده الشرس للمؤسسات المركزية للدولة – القضاء والحدود –، وحميّته الوقائية على استقلاله، تجعل منه فاعلًا سياسيًا مستقلًا، يصعب التلاعب به، ويبعد عن المنطق الحزبي والمصالح الحزبية. مع اقتراب الانتخابات، تحاول بعض الأحزاب استخدام 8 آذار/مارس كمنصة انطلاق لحملاتها الانتخابية، لكن الانتفاضة النسوية هزمت تلك الجهود: يبدو واضحًا اليوم أن الحراك النسوي إما سيكون مستقلًا أو لن يكون.

4. تغيير كل شيء

يتصف فعل احتلال الحيز العام بحد ذاته، وتحويله هذا الحيّز إلى حيز جمعي، بِالتحرّرية والتوسّعية، فهنالك ما هو تحرّري في تلاقينا جميعًا، ورؤية بعضنا البعض، فبذلك نعرف بعضنا ونعرف أنفسنا في النساء المحيطات بنا، وصرختنا الجماعية تغرق كل شيء: «هنا نحن النسويات!». في خلاصة قدمتها بعد إضراب العام الماضي، سمّيت هذا الشعور بـ «تحقيق الحق في الوجود»: إنه نهاية الانعزال، وإعادة اكتشاف المجموع، وولادة طريقة جديدة للوجود في هذا العالم.

بدأت الشبكات التي أسّست في السنة ونصف السنة الماضية فعلًا بالانتشار في كل مكان. كان الإضراب النسوي – منذ نشأته – حركةً عابرة للأجيال، تحرِّكه شريحةٌ من النساء اليافعات، ويضم عددًا لا بأس به من كبيرات السن، كثيرٌ منهن ليس لديهن أي خبرة سياسية سابقة. تبلور هذا المزيج الموجود في المجالس ولجان العمل الآن في روابط شخصية، حيث روحنا الرفاقية تغلب على أي اختلاف. يمكِّنُ مبدأُ التضامن النشط النساءَ القادمات من خلفيات متنوعة من الإدراك السريع للمشاكل والصراعات التي تخوضها غيرهن من النساء. والأمر لا صلة له بأي جوهرانية في المرأة، بل على العكس تمامًا: يعود ذلك إلى ربط سؤال «إلى أي قدر أثّر كونكِ امرأة على حياتك؟» بتحليلٍ فعلي للظروف المادية والواقع المعاش. هنالك جدلية ولّادة بين المستويين الصغير والكبير، بين الأبعاد المحلية للأحياء والمستوى العالمي للسير المعاصر للرأسمالية. هذا البعد الأممي، الذي كان حاضرًا منذ بداية بداية الحركة، بعدٌ ضروري للغاية إن أردنا الحصول على فرصة للانتصار في التصدي للمهام التي قدّمتها لنا الحركة.

التحدّيان الرئيسان اللذان نواجه هما التقدم بالنقاش البرنامجي، وتطوير استراتيجيات جمعية. الابتعاد عن المستوى الوطني لأجل تكوين شبكاتٍ وتحالفاتٍ عابرة للحدود هي الطريق الوحيدة الممكنة لإنهاء بنى الهيمنة والتسلط التي لا تقف عند حدود بلدنا، بل تكرّرها وتعززها قوى اقتصادية عالمية وعلاقات استعمارية جديدة. وبالتالي، القوة الأكبر للمد النسوي الأممي تقع في التالي: قدرتها على مواجهة كل شيء.


الملاحظات:

[1] Judith Carreras, “¿Puede el feminismo ser un revulsivo sindical?,” Viento Sur 161 (December 2018): 71-82.


يندرج هذا المنشور ضمن: نحو الأممية النسوية.

Skip to content