النهضة البطيئة للنسوية النضالية في فرنسا

24 تشرين الثاني/نوفمبر، 2018م: تتساقط القنابل المسيلة للدموع على المتاريس المحترقة في الشانزليزيه. شغل الفصل الثاني لحركة الستر الصفراء (Gilets jaunes) الفقرات الرئيسة لكل قنوات الأخبار. في المقابل، وبعد أكثر من ميلٍ بقليل عن الشانزيليه، عُقِدَت أكبر تعبئة نسوية في فرنسا في السنوات الماضية. أقيم التجمّع كجزءٍ من الحركة المسمّاة نحن جميعًا (Nous Toutes) بهدف تنظيم مظاهرة وطنية في اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، وحضرت حوالي 30 ألف مظاهرةٍ ومتظاهر في باريس، و50 ألف إن شملنا المظاهرات خارج باريس. قادت التحشيد قادته كارولين دي هاس، ناشطةٌ نسوية معروفة وعضوةٌ سابقة في الحزب الاشتراكي، وقد استقالت من منصبها في وزارة حقوق المرأةفي حكومة الرئيس السابق فرانسوا أولاند. هدفت مبادرتها الأخيرة لتجاوز الانقسام داخل الحركة النسوية، عبر جذب كل أطرافها إلى طاولة الحوار، مما يحدث انقطاعًا مع ممارسات التيارات النسوية التقليدية، التي تُجسٍّدها الرابطة الوطنية لأجل حقوق المرأة (Collectif National pour les droits des femmes). هذا الانقطاع تمَّ بالتأكيد إن قارنّا هذه الحملة التعبوية مع سابقاتها في الأعوام الماضية، فحتى مع ارتباط الحملات السابقة المباشر مع حركة #أنا_أيضًا (#MeToo)، لم تجذب فعالياتها أكثر من ثلاثة آلاف متظاهرة ومتظاهر.

يجب أن تُفهَم إمكانيةُ التجديد في التعبئة النسوية في سياق أزمة أعم داخل النسوية المؤسسية، أزمةٌ ولّدتها أزمةُ الحزب الاشتراكي. فبينما كان لدى النسويات المؤسسيات حلفاءٌ أقوياء في الحزب الحاكم أثناء رئاسة أولاند، فقد خسرن هذا الوصول السهل مع إدارة ماكرون، نظرًا لذهاب وزيرة حقوق المرأةالجديدة مارلين شيابا لقطع الصلة مع المنظمات التقليدية لحقوق المرأة، وتفضيلها العمل مع شركائها من مجموعات العلاقات النسائية الليبرالية، مثل تلك المتمحورة حول مدوّنتها السابقة ماما في العمل (Maman travaille). بالطبع، يرتبط هذا النمط الجديد لإدارة شؤون النساء بانخفاضٍ في التمويل الحكومي لمنظمات حقوق المرأة، بما في ذلك المنظمات العاملة مع ضحايا العنف الأسري والجنسي. بالتالي، لأن النسوية التقليدية لم يعد لديها ما تكسبه من الحكومة الجديدة، قبلت عضوات هذا التيار بالتحدي، بتجربة شيءٍ جديد قد يقدم لهن دعمًا شعبيًا «أكبر».

ولكن، رغم أنّ الحضور النسائي بالتأكيد أكبر في الشوارع من الأعوام الماضية، لا يمكننا الحديث بعد عن حركةٍ جماهيرية حقيقية تُقارَن بما جرى في الأعوام الأخيرة في الأرجنتين أو بولندا أو إيطاليا أو إسبانيا. كان اختلاف النبرة عن الحملات التعبوية السابقة اختلافٌ جزئيٌ ورمزيٌ لا أكثر. حقًا، فقد كانت استراتيجيةُ المنَظِّمات لجذب أكبر عددٍ ممكن من النساء إلى الحركة هي تجنب ذكر أي قضية جذرية أكثر من المقبول، أو من الممكن أن تحدث الانقسام: بالتالي، لم ينطق بكلمة واحدة عن الإسلاموفوبيا المتفشية التي سادت فرنسا لسنوات، ولا كلمة واحدة عن الرأسمالية بما هي رأسمالية، ولا أي دعمٍ صريح للعابرات والعابرين جنوسيًا ولا عن عامِلات وعامِلي الجنس، ولا مطلبٌ فعليٌ واحد، ما عدى شعار «أوقفوا العنف». نتيجةً لذلك، روّجَ للتعبئة عددٌ من المشاهير الليبراليين والليبراليات، وبعض أشهر بودكاستات النساء، بينما ركزت نقاشاتُ النشطاء فقط على التنظيم، دون أي تطرّقٍ للنقاشات والمناظرات السياسية الضرورية. بدى أن التنصل من الأجندة الجذرية كان التكلفة اللازمة للحصول على درجة من الدعاية و«الفعالية التنظيمية». ولهذا السبب جمَّعَت مبادرةٌ أخرى اسمها نحن أيضًا (Nous Aussi) أكثر من ألفي شخصٍ تصدّرنَ المظاهرة، بمطالب جذرية داعمة لعامِلات وعامِلي الجنس، والعابِرات والعابرين جنوسيًا، والنساء غير البِيْض، وخصّيصًا المسلمات.

بالتالي، من الصعب أن نتحدث عن تجديدٍ حقيقي للحركة النسوية، فالحركة النسوية الفرنسية لم تتبع حقًا خطى التوجه العالمي نحو إضرابِ النساء الضخم ليوم 8 آذار/مارس. دعت المنظمات إلى إضراب #15h40، إضرابٌ يبدأ الساعة 3:40 عصرًا. ووصفت الحملة نفسها في دعوتها كالتالي: «بالتسوق، والتنظيف، والأطفال، نقوم بحوالي 20 ساعة عملٍ منزلي أسبوعيًا. عملنا هذا مُخفى ويستهان بقيمته. أجورنا أقل بـ 26% من أجور الرجال. بالتالي، من 3:40 عصرًا، عملنا اليوم مجاني». من هذا التركيز على تفاوت الأجور تخلص مؤلِّفات الدعوة إلى أن ما على النساء فعله هو التوقف عن العمل الساعة 3:40 عصرًا، مما يدل على تجاهل دعوتهن قضيةً تاريخية رئيسة في النسوية: العمل المنزلي غير المأجور. بينما مجّانية العمل المنزلي شرط جوهري لصحة الرأسمالية وقدرتها على استغلال النساء، فهذه الدعوة لا تحقق التفرُّع الضروري في المجالين العام والخاص، وبالتالي لا تشمل النساء غير المأجورات في النشاط والقدرة على المشاركة في الإضراب. ولا يبدو أن هذه الدعوة هدفت لأكثر من مجرد نشاطٍ رمزي، حيث النقابات، وهي منخرطةٌ رسميًا في الحملة (حيث أصدرت تحذيرَ إضرابٍ لذاك اليوم) لا يبدو أنها روجت حقًا للدعوة لتشجيع العاملات على الإضراب.

مع ذلك، ففي باريس نادت مجموعة نسائية من السُتَر الصفراء بالمشاركة في فعالية 8 آذار/مارس، ودعت المنظَمات النسوية للانضمام إليهن في وِحدة نسائية تصدَّرت المظاهرات الأسبوعية في السبت التالي. لسوء الحظ، لم يحضر فعالية 8 آذار/مارس إلا قرابة ألف شخص، ولم تنضم إلا نساءٌ قليلات من السُتر الصفراء لإضراب #15h40. في المقابل، انضمت العديد من المجموعات النسوية إلى مسيرة 8 آذار/مارس، لكنها كانت مبادرةً صغيرة، فأغلبُ النساء المشاركات في مظاهرات الستر الصفراء لم تشاركن في هذه الوحدة النسوية. ومع ذلك، فهذا الوجود الرمزي للقلة الحاضرة كان له أهميته، فلا شك أنها ساعدت على سد الانقسامات الظاهرية الناتجة عن افتراض عدم التوافق ومظاهرات 24 تشرين الثاني/نوفمبر، حيث بدت مظاهرات الستر الصفراء والمظاهرات النسوية، فيما عدى مدن قليلة، وكأنها مشاريع سياسية لا توجد بينها قواسم مشتركة.

من الجلي الآن أن العكس هو الصحيح، فمشاركة النساء في حركة الستر الصفراء بدأت منذ بداية الحركة. وبينما كانت المشاركة النسائية في الحركة مفاجِئةً للصحافة، لم تغفل النسويات والمؤرِّخات والمؤرّخون الدور الأساسي الذي أدَّته النساء في الحركات الثورية.

وبالإضافة إلى مشاركتهن إلى جانب الرجال في الشوارع والدوّارات، شارَكت مجموعات الستر الصفراء النسائية في تنظيم مظاهرات الأول من كانون الثاني/يناير ضد عنف الشرطة الوحشي. قامت نساء الحركة بتنظيم مظاهراتٍ منفصلة تعقد أيام الأحد، والمسألة الأساسية المطروحة – من ضمن مسائل أخرى – اختصت بما إذا كانت الشرطة ستهاجم مسيرةَ نساءٍ أم لا. كانت هذه الخطوة أول خطوةٍ اتخذتها النساء في الحركة، واعتُبِرت مساهمةً مؤاتية في الحركة ككل – وليس فقط مستندة إلى اضطهادهن المحدَّد كنساء – واستمرت بعض النساء في التنظيم والنقاش حول أوضاعهن الهشّة ومعاناتهن كنساء في الحصول على لقمة العيش، وبتركيزٍ على مسائل محددة مثل التعنيف الأسري والرعاية بالأطفال.

تشكّل مداخلة نساء الستر الصفراء في الحيز النسوي لحظةً مؤاتية للبت في إمكانية نشوء موجة نسوية ثالثة في فرنسا لتعبئة جماهيرية تقودها نساء الطبقة العاملة. فقد شاركنا فعلًا في السنوات الأخيرة في حركات تعبوية ملهمة للنساء العائشات في ظروفِ عملٍ لا تزداد إلا سوءًا (من مصففات الشعر، وعاملات النظافة، و الخادمات، والممرضات وعامِلات الجنس)، وكثيرٌ من تلك الحركات نجحت. ما يجمع هذه القطاعات الوظيفية هو أن أغلبها «متطبعة» بالعمل الأنثوي، وبالتالي هي جزءٌ من الأعمال المأجورة المعيدة للإنتاج الاجتماعي1الأعمال المعيدة للإنتاج الاجتماعي: يقصد بها الأعمال الرعائية والمعيدة لإنتاج المجتمع ككل، من إنجاب، والأشغال المنزلية، والعناية بالأطفال، والطبخ، والتربية والتعليم، والتطبيب، سواءً كان ذلك عملًا مأجورًا أم غير مأجور. ولتشكيل هذه الوظائف عادةً امتدادًا لعمل النساء المجاني في المنزل، فتنظيمنا بصفتنا عمّالًا في هذه الوظائف يعني التنظيم بصفتنا نساء؛ ولأن هذه الوظائف تتضمن معرفة خِبرية تتشاركها أغلب نساء الطبقة العاملة، فمثل هذه النضالات لها القدرة على تعبئة عددٍ ضخم من النساء وضمّهن لصفوفها.

وبينما قَدِمَت الحركات التعبوية الملهمة – مثل مظاهرة السترات الصفراء – من خارج الحركة النسوية، فلها وقعٌ قوي – ونأمل أن يكون مستمرًا – في إعادة التشكيل الضرورية للحركة النسوية. وفي المقابل، لقد برهنت الحركة النسوية أصلًا قدرتها على منع الحركات الأكثر جذرية من الإخلال بموقفها المهيمن. وبالتالي، فالتحدي الذي يقابل مساهمة نساء الطبقة العاملة، من خلال نضالهن إلى إعادة التشكيل هذه، هو تحدي الحفاظ على توازنٍ مناسب بين الاستخدام الاستراتيجي للدعم والمعونة من المنظمات النسوية والنقابية التقليدية، والإبقاء على قدرتهن على المبادرة بالنشاطات المستقبلية وقيادتها. وللحفاظ على الاستقلال من القطاعات الأخرى للحركة المترددة بشأن إعادة التشكيل هذه، فعلى الشرائح العمّالية زيادة قدرتها على تعبئة حركاتٍ حاشدة، والاستلهام من الحركات خارج البلاد والتنسيق معها – خصوصًا للدعوة للإضراب الأممي عن الأعمال المنتجة والمعيدة للإنتاج. بإلهامٍ أممي كهذا، ونظرًا للفرصة غير المسبوقة التي دفعت بها رئاسة ماكرون لبناء أحلاف تضامنية جديدة للطبقة العاملة في فرنسا، لدى حركة النساء الفرصة لشحن النضال بمنظورٍ أممي مناهض للرأسمالية، كمساهمةٍ حاسمة لعملية خلق الذات الحركية الجارية حاليًا.

 وأخيرًا، يجب أن تعززَ منظوراتٍ كهذه التزامٌ صارمٌ بمحاربة العنصرية العرقية: تتعرض النساء الملوّنات، وخصوصًا النساء المسلمات، للمضايقات السياسية والإعلام الإسلاموفوبي الحازم في التشكيك بحقّهن بلبس الحجاب، وبالتالي حقّهن في الحضور في الفضاء العام. للأسف، تواطأت الحركة النسوية التقليدية مع هذه المضايقات، وساهمت بقوة في سياسات نسوطنية 2نسوطنية (femonationalism): مصطلح يطلق على التوليف والتحالف بين سياساتٍ نسوية ظاهريًا واليمين القومي المعادي للمهاجرين والهجرة، تصوّر الإسلام كمخالفٍ أصلًا لمصالح النساء. إن أردنا المساهمة في بناء موجة نسوية جديدة بجذورٍ مغروسة في تجارب نساء الطبقة العاملة وبشكلٍ نابع من مصالحهن ورغباتهن، فلن يكون مبدأ الأممية كافيًا، بل يجب التصدي للعنصرية العرقية في داخل الحركة النسوية نفسها.


يندرج هذا المنشور ضمن: نحو الأممية النسوية.

Skip to content