الكورونا كمأساة وكضرورة

تسريح موظف تعرفه، حالة انعدام اليقين بشأن توافر الدخل مستقبلاً، منتجات نظافة ووقاية لا يستطيع تلبيتها الدخل العادي، مقايضة على حياتك بالانعزال في البيت وضياع الراتب، أو الذهاب للعمل وزيادة فرص إصابتك، إلخ، هذا هو ما رفض العديد معرفته عن الحياة في ظل الرأسمالية، واليوم سيعيشه العالم أجمع.

ليس لنا أنّ نفرح بهذه الأزمة، وإنْ أكّدت حجّتنا ضد المنظومة القائمة، لعلّ وعسى تجيّش الناس ضدها، بل يجب علينا التأمل بحقيقة محزنة تكمن فيها حاجتنا لهذه الكوارث لِنُدفع للنظر في طبيعة تنظيم مجتمعاتنا.

ما هي الحقيقة المحزنة؟!

تبدو الحياة واحدة، الشمس تشرق على الجميع والمطر ينزل على الجميع، ولكن هناك من يعمل خلف شاشة جهاز إلكتروني في حجرة مكيفة ومجهزة، وهناك آخر يعمل بَنَّاءً تحت أشعة الشمس اللّاهبة، هناك من يستقبل المطر في «كومباوند» بشبكة صرف مجهزة وطرق ممهدة، وآخر يعيش بالعشوائيات في بيوت من الصفيح تَغرق في خليط من مياه الأمطار ومياه الصرف الصحي!

فالحياة ليست واحدة، وهذا ما يخبرنا به الواقع الذي برغم تعدد أشكال وجوده وتقسيماته وتصنيفاته، إلا أنه يظل واقعًا طبقيًا، يتحدد فيه وجودك بانتمائك الطبقي، وحين يأتي المرض، لسنا نواجهه مجتمعين، فمنّا القادر على الإنفاق الصحي من خلال شركات التأمين العملاقة أو المردود المادي الذي يضعه تحت أيدي كبار الأطباء والاستشاريين في أرقى المستشفيات ودور العناية الفائقة، ومنّا من يفترش طابور الأدوار للحصول على كشف مجاني في أحقر المستشفيات العامة!

واليوم يجتاح العالم وباء الكورونا، في ظل واقع مُشبّع بانعدام العدالة والمساواة واستفحال التقسيم الطبقي الفج، عالمٌ يقع في تناقض صارخ بين الإمكانات المتاحة من الموارد والتقدم العلمي والتكنولوجي من جهة، واللاعقلانية التي تحكم مجتمعًا يقوم على السعي الدائم وراء الأرباح من جهة أخرى.

فالحقيقة المحزنة، إذن، هيّ أنّا تُرِكنا وحيدين، بدون وظيفة مستقرة أو راتب مجزي أو تأمين أو ضمان اجتماعي أو سياسيين وممثلين اجتماعيين، وحيدين في مواجهة المرض.

مواجهة غير عادلة

بعدما حُصِر الفرد في معاركَ آمنة، بإشغاله بقضايا الرأي العام التجارية والمواضيع و«الترندات» التافهة وخلق حالة عامة من اللامبالاة تغذيها الدعايات الإيديولوجية السائدة وَرُوح مجتمع الاستهلاك المنزوع منه الذوق والقيمة والجدوى، يتَّهم المواطن بافتقاده للذوق وانعدام حس النظافة الشخصية والأخلاقيات العامة وثقافة التعامل مع كارثة، وغيرها من التهم، من الصيغ والمسميات التي هي بالأصل نتاج سيل من السياسات التي وحّدت المواطن في ركن معزول من عالمه، في وقتٍ وظرف لا يوجد أمامه سوى النجاة بنفسه وبعائلته إن تمكن!

بتغييب حس التضامن الاجتماعي والإنساني، وَحَلّ التنظيمات والأحزاب والجمعيات والنقابات وأي كيان ينظم الأفراد اجتماعيًا، لصالح سياسات فردانية وَأوامر للأفراد بالانعزال والتهميش والتفكير فرادى، وثقافة انعزالية تُزرع بالطفل بألا يفكر إلا في نفسه ومستقبله وحياته الخاصة، بألا تنشغل بالآخرين خشية أن ذلك قد يعطلك، وألا تفكر في الآخرين خشية أن ذلك قد يسجنك أو يشردك.

فحين يقول أحدهم:

«علي الجميع أن يتعامل بشكل كذا أو كذا. . .»، وتنهال التعليمات والإرشادات من الجهات والمؤسسات تجاه الأفراد، فلا بد أن نكون واعين إلى حقيقة أن هؤلاء الأفراد مقسومون طبقيًا، وحقيقة أن عدم التزام الطبقات الأفقر باحتياطات السلامة ليس ناجمًا عن جهلٍ أو أخلاقياتٍ فاسدة متأصّلة كما يصوّرها مؤيّدو القمع الطبقي، بل أن طابع حياتهم يدفعهم لذلك، أكانت طبيعة عملهم أو مواردهم المادية القليلة التي تلقي بهم يوميًا في المواصلات العامة والازدحام، أو كان دخلهم البسيط المستحيل أن يغطي احتياجاتهم الأساسية من طعام وشراب وسكن ومياه وكهرباء، فلا يسعه أن يغطي استخدام المنظفات والمعقمات . . . إلخ.

فحين يُطالَب ملايين ممن يبيعون أيّامهم للراتب الشهري بالتزام تعليمات وإرشادات معينة للمواجهة، وإن كانت حقًا تعليمات سليمة وصحيحة، فهي تغفل حقيقة تعارضها مع طبيعة حياتهم وظرفهم الموضوعي وبيئتهم الاجتماعية التي كونتها مجموعة من السياسات وأنماط التقسيم الطبقية دفعتهم لاحتلال بدروم المجتمع، فهذه ليست بمواجهة، بل مقايضة على حياتهم، إما بالانعزال في البيت وضياع الراتب، أو الذهاب للعمل وزيادة فرص الإصابة بالمرض، هو إذن تخييرٌ بين الموت جوعًا، والموتِ مرضًا، وكلٌّ منهما يؤدي إلى الآخر.

أزمة داخل أزمة

ما زالت هناك قطاعات كبيرة من الطبقة الوسطى يخالطها التردد والشك بالطبع، فلديها وظيفة وراتب مكفولين ويريدون الحفاظ عليهما، وتلك الفئات تبني دومًا أمانها المؤقت على قاعدة خوفها المستمر، خوفها من تعرّضها للمزاحمة من الطبقات الدنيا والمنافسة وبالنهاية فقدان مكانتها، وهذا الخوف هو نتاج تبنّيها لكافة الأفكار المُحافظة الاجتماعية، حيث شكل العائلة البطريركي الأمثل، التي تستثمر أبنائها في التعليم والحصول على شهادات، لتوظيفهم والتعويل عليهم لرفع الأسرة طبقيًا، وعليه فهي طبقة متعددة المصالح وغير متجانسة بسبب تماهيها مع أنماط التفريد وفردنة المصالح: حيث مصلحة الشخص هي مصلحة ذاتية غير مرتبطة بالظروف الجماعية.

الطبقة الوسطى التي تنظر للفقير بعين الازدراء بكونه فاشل وقَدَرُه أن يكون فقير، الطبقة الوسطى التي ترى الطعام والمأوى والتوظيف واقتناء الملابس والسيارات عبارة عن حقوق يكتسبها أي ناجح ومتطلع في سوق العمل، الطبقة الوسطى التي تتحدث عن الأذواق والجمال والمتعة والمزيكا والسينما ونمط الغذاء الصحي، وكيف أن غالبية الجماهير تفتقد لما سبق بسبب قلة الذوق أو انعدام حس الثقافة والرقي، في حين إن كل ما سبق هو مسلوب قصدًا وعمدًا من طبقات بعينها فقط لتسليعه، لذا فهي طبقة حاقدة على الأغنياء وتمقت الفقراء، ودومًا واقعة تحت طائلة الإغراء بالزيادات السنوية وخصومات البراندات المستوردة والتمتع بالقروض الشخصية، ولا تعرف سوى الصدقة والزكاة والتبرعات والإحسان كتضامنٍ نزويٍّ زائف مع الفقراء يمكن سحبه في أي لحظة.

وفي مستوى أدني هناك قطاعات أكبر وأكبر من الفقراء اللامباليين الفاقدين لكل ثقة بالمجتمع والدولة، والذين انقطعت صلاتهم العضوية بالمجتمع الفوقي، يعيشون على هامش المدن والمراكز حيث العشوائيات ذات الكثافة السكانية العالية والخدمات المتردية وقدرات مادية منعدمة على الصمود في ظل الحياة العادية، فيقعوا ضحايا لعمل أو إثنين، أو ضحايا لدائرة الاستدانة، أو ينحرفوا أكثر ويكونوا ضحايا للجريمة.

لذلك في لحظات الصراع الكبرى، لا يصطف الشعب صفًّا واحدًا، ولكن ينشأ صراع ثانوي أو قبلي للمرحلة تلك:

صراع بين اللا-مجتمع (الطبقات المُهمّشة والمُعدَمة) والمجتمع (الطبقة الوسطى القادرة على الاستهلاك وممارسة شعائر الحياة)، صراع بين من لا يملكون شيئًا ليخسروه ومن لا يودّون خسارة ما كَنَزوه، بين من لا تربطهم مصلحة بالمجتمع ومن لديهم المصالح العظمى وشبكة العلاقات والحياة.

كورونا كمأساة و ضرورة

معلوم جيدًا ماذا تمثل الكورونا كمأساة، ليس فقط للانتشار السريع العابر للقارات وزيادة حالات الإصابة والوفاة.

ولكن لأن هناك أعداد وإحصائيات أشد خطورة ورعب تجعل من الحياة أكثر صعوبة في ظل ظروف استثنائية، فبحسب آخر التقارير للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) فإن ما لا يقل عن 52 مليون عربي سيُعانون من نقص التغذية، في حين أنه طبقًا لمنظمة الغذاء العالمي فإن نسبة 75% من البشرية تعاني من سوء التغذية، وقد كشف التقرير نفسه أن الدول العربية تخسر سنويًا حوالي 60 مليار دولار نتاج هدر الطعام!

نفس التقرير للإسكوا ينذر بانحدار حوالي 102 مليون عربي تحت خط الفقر، وخسارة ما لا يقل عن مليون و700 ألف وظيفة في العالم العربي، كما يتنبأ التقرير بتراجع الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية بما لا يقل عن 42 مليار دولار.

في الهند، إحدى الدول النامية وذات الكثافة السكانية العالية، فإن نسبة 60% من مواطنيها – أي حوالي 500 مليون مواطن تقريبًا – سيكونون عرضة للجوع خلال شهر على أقصى تقدير، فماذا عن باقي دول وشعوب العالم الثالث؟!

في أمريكا – حيث مركز الرأسمالية العالمية – في أسبوع واحد تقدم 3 مليون مواطن لطلب إعانات بطالة، وهذا الرقم يعتبر خمسة أضعاف ما سجلته أمريكا في عام 1982.

كل هذا وأكثر يكشف لنا النتاج المأساوي لأزمة الوباء العالمي، التي جرفت معها للسطح باقي الأوبئة التي ما زال يعيش معها مواطن القرن الحادي والعشرين: الجوع والتشرّد والبطالة، ولكنّ كورونا تصبح أيضًا ضرورة لإنها معطى للمواطن العالمي، ليستشعر الملايين عبر العالم ما تعنيه مقولة «أزمة عالمية»، ضرورة بقدر ما أجبرت كرة القدم والترندات والمواضيع التافهة ومظاهر الاغتراب على التوقف، ضرورة بقدر ما ستظهر للبشرية أهمية جماعيتهم وتضامنهم الإنساني من أجل عمل جماعي وثروة جماعية، ضرورة بقدر ما ستكشف بؤس واحتياج الملايين حول العالم للرعاية الصحية المجانية، ضرورة بقدر ما ستستدعي من مفاهيم حول تأميم المستشفيات وتوفير المنتجات والاحتياجات حسب الحاجة، ضرورة بقدر ما ستجذب الجماهير لكي يعرفوا أنّ ما يدور في عالمهم وأزمتهم في قلب السياسة العالمية، وأن كل معطى في حياتنا هو سياسي بالأساس، إذْ سَيُسلَّط الضوء على النهب العام لطعامنا واحتياجاتنا الصحية والمعيشية، وبدلًا من كون الفرد رهن مأساته الخاصة وبالتالي خلاصه الذاتي، سنوضع جميعًا في حدود مأساة واحدة عامة، كما ستضع المالكين والمستحوذين على الثروات في أزمة أمام المسلوبين وعوام المعدومين، الجميع في مرمى الوباء، والفارق والحل هو سياسي، إما سياسة وبالتالي علاج وحياة تنتج لصالح الجميع، وإما سياسة تنتج على حساب الجميع.

بالنهاية لا يمكن أن نعود للوضع العادي، لأن «العادي» الذي كنا نعيشه بالأساس هو تحديدًا المشكلة.

Skip to content