فضحت أزمة كورونا عبثية النيوليبرالية، فهل يعني ذلك نهايتها؟

سرعان ما تحولت حالة الطوارئ الصحية العامة التي أثرها كوفيد-19 إلى أزمةٍ في مركز الاقتصاد العالمي، وهي أزمةٌ لن يستثني تهديدها البلدانَ النامية في الطرف. لكن هذه الأزمة غيرت التوازن بين الدولة والسوق؛ فأظهرت مرة أخرى خواء الإيديولوجية النيوليبرالية، فها هو البعدُ الاقتصادي للأزمة يسدد ضربةً قويّة للرأسمالية المعاصرة، من المرجح أنها أقوى من الضربة التي ستصيب الصحة العامة.

والواقع أن للأزمة جذورٌ أعمق من ذلك، فالأمر يتعلّق هنا بالاشتغال المَرَضي للرأسمالية المُأَمْوَلَة والمُعولمة على امتداد العقد الماضي؛ لقد وضعت الأزمة الكبرى لـ 2007-2009 حدًا لـ «العصر الذهبي» للقطاع المالي الذي امتدّ منذ بداية التسعينيات إلى بدايات الألفية الجديدة، وقد تلت تلك الأزمة سنوات نموٍّ اقتصادي هزيل في مركز الاقتصاد العالمي: ربحية ضعيفة، ونمو منخفض للإنتاجية، وانعدام مطلق لدينامية الاستثمار. والحال نفسها عانى منها القطاع المالي، فسرعان ما بانت ورطته الكبرى بربحية منخفضة وانتهاءٍ للدينامية الاستثنائية التي اتسم بها خلال العقد الماضي. فإذا كانت أزمة 2007-2009 غير المسبوقة تاريخيًا قد أعلنت بلوغ ذروة الأَمْوَلَة، فقد تبلور تدهورها في أزمة فيروس كورونا المستجد.

لا شك أن الإجراءات التي اتخذتها الدول-الأمم في مواجهة هذه الجائحة كانت الباعِثَ المباشر للأزمة. فبعد أن تجاهلت عدة دول، بادئًا، حالة الطوارئ الطبية، سارعت (هذه الدول) بعدها محمومةً إلى إغلاق الحدود تارة ومناطق جغرافية كاملة تارةً أخرى؛ فَقَيَّدت بذلك السفر، وأغلقت المدارس والجامعات، وما إلى ذلك. سددت هذه الخطوات ضربةً شديدة لأسس الاقتصادات، الضعيفة أصلًا، بما أحضرته من انهيار شامل للطلب، وتعطيل سلاسل العرض، وانخفاض الإنتاج، وتسريح الملايين من العمال، وخسارة عائدات الشركات. كل هذا كان سببًا في انهيارٍ غير مسبوق في قيمة الأسهم وتأجيج حالة من الهلع في الأسواق المالية.

الحال وكأننا نشهد عودة الموت الأسود للقرن الرابع عشر الميلادي. بل إنّ الأكثر طرافة هو أنَّ استجابةَ مجتمعات القرن الحادي والعشرين لم تختلف، فكانت مزيجًا من الخوف الأعمى والعزل المتبادل بين الجماعات. لكن الطاعون قتل ثلث سكان أوروبا عندما كانت دُوَلها عبارةً عن ممالك إقطاعية فقيرة ومتخلفة، وحالنا الآن على النقيض من ذلك: يبدو أن عدد ضحايا فيروس كورونا سيكون منخفضًا، كما أن الفيروس نجح أيضًا في ضرب دول رأسمالية متقدمة ذات مقدرات تكنولوجية لا مثيل لها.

لا تزال المناقشة المحتدمة بين علماء الأوبئة تتجدد حول ما إذا كان الإغلاق الكامل للحركة يشكل استجابةً مناسبةً ومستدامة، أو ما إذا كان من الواجب على الدول، بدلاً من ذلك، أن تركّز على تكثيف وتوسيع الفحوصات الطبية للسكان.

ليس لخبراء الاقتصاد السياسي أن يقيموا سياسات التصدي للأوبة، ولكن ليس هناك من شك في أن ردود أفعال العديد من الدول، وما ترتب على عليها من انهيار للنشاط الاقتصادي، تشكل جزءًا من الطبيعة المَعيبة جوهريًا لاشتغال النيوليبرالية، فقد تبيّنَ عجزُ النظام الاقتصادي القائمِ على المنافسةِ والتدافعِ المشين لتحقيق الربح – تُؤمِّنُهما الدولة القوية – عن التعامل بهدوء وفعالية مع صدمة صحية عامة مجهولةُ الحِدّة.

الواقع أن العديد من البلدان المتقدمة افتقرت إلى البنية التحتية الصحية الأساسية اللازمة لعلاج من وصل بهم المرض إلى حالةٍ خطيرة، كما افتقرت إلى المُعدات اللازمة لفحص السكان على نطاق واسع وحماية الأكثر عُرضةً للإصابة بالمرض.

بالإضافة الى ذلك، من المرجح أن يخلّف إغلاق قطاعات ضخمة من المجتمع وعزلها بالجملة عواقب وخيمة للغاية على العمال المأجورين، فضلًا عن أفقر الطبقات وأضعفها وأكثرها هامشية، والتداعيات الذهنية والنفسية لن تكون أقلَّ دمارًا، فقد تبين أن تنظيم الاجتماعي للرأسمالية المعاصرة مختلٌّ وظيفيًا حتى من وجهة نظر هندسية.

ولم يقلّ عن ذلك إذهالًا سلوك الدول – حتى القوية منها – بعد اتضاح حجم الانهيار الاقتصادي، ففي شهر آذار/مارس، أقدمت البنوك المركزية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان على عمليات ضخ للسيولة ضخمة، فانخفضت أسعار الفائدة إلى الصفر، في محاولة لإعادة الاستقرار لأسواق الأسهم المالية والتخفيف من نقص السيولة، فأعلن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي – على سبيل المثال – نيّته على شراء كميات غير محدودة من السندات الحكومية، بل وحتى سندات الشركات الخاصة الصادرة حديثًا، وخططت الحكومات في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأماكن أخرى، للتوسيع الإنفاق الحكومي بمستويات مهولة، على هيئة ضمانات للقروض والائتمان للشركات، وإعانات الدخل للعمال المتضررين، والإرجاء الضريبي، وإرجاء الضمان الاجتماعي، وزيادة الدعم، وتعليق تسديد الديون، وهلم جرًّا.

وفي خطوة استثنائية، أعلنت إدارة ترامب عن خطة لتوفير 1,200 دولار لكل بالغ، أو 2,400 دولار لكل زوجين، مع مدفوعات إضافية للأطفال، بدءًا بأفقر الأسر، وهذا المبلغ جزءٌ من حزمة يمكن أن تتجاوز التريليوني دولار، أي حوالي 10 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة؛ وقد تضمنت الحزمة أيضًا 500 مليار دولار من القروض للشركات المنكوبة، و150 مليار دولار للمستشفيات والعاملين في مجال الرعاية الصحية، و370 مليار دولار من القروض والمنح للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. وفي خطوة تضاهيها استثنائيةً، أعلنت حكومة حزب المحافظين في بريطانيا اعتزامها فعليًا أن تصبح الملاذ الأخير للتوظيف عبر دفع ما قد يصل إلى 80 بالمئة من رواتب العمال، إذا أبقت الشركات على الرواتب، وتبلغ قيمة هذه الدفعات 2,500 جنيه إسترليني كحد أقصى في الشهر، أي ما يتجاوز الدخل المتوسط بقليل.

لقد كانت هذه التدابير قبل أيام قليلة تُعدَّ عند بعض الأكاديميين اليساريين من مصافي التدابير الراديكالية، فقد نُحِّيَت شعارات الإيديولوجية النيوليبرالية في العقود الأربعة الأخيرة جانبًا بسرعة، وبرزت الدولة بوصفها الجهة المنظِّمة للاقتصاد التي تتولى قيادة قوة هائلة. ولم يجد شخوص اليسار صعوبةً في الترحيب بمثل هذه التحركات من جانب الدولة، فاستقبلوها كإشارة «عودة الكينزية»، وكانتكاسة الموت للنيوليبرالية. ولكن من التسرع أن نتوصل إلى مثل هذه الاستنتاجات.

لقد كانت الدولة-الأمة حاضرة دومًا في قلب الرأسمالية النيوليبرالية، لضمان الحكم الطبقي للكتلة الشركاتية والمالية المهيمنة من خلال التدخلات الانتقائية في لحظات حرجة. وقد صاحبت هذه التدخلاتِ الجديدةَ تدابير سلطوية شديدة، كالحجز الجماعي للناس في مساكنهم، وإغلاق عواصم ضخمة. وبيَّنت الدولة قوتها الهائلة في السياسة الاجتماعية بجمع المعلومات من خلال البيانات الضخمة، فعلى سبيل المثال، وافقت الحكومة الإسرائيلية اليمينية على تتبعِ قوّات الأمن الهواتفَ المحمولة بهدف مراسلة الأشخاص الذين احتكَّوا عن غير قصد بشخصٍ تأكدت إصابته بفيروس كورونا، ولسان حالها يقول: نحن لا نعرف موقعك حسب، بل محيطون بمن تحتكّ بهم قصدًا أم صدفة.

الواقع أن هذه السلطوية تتماشى تمامًا مع الإيديولوجية النيوليبرالية المهيمنة في العقود الأربعة الماضية، فمرسومُ الدولة يقترن بتجزئة المجتمع مع حجز الناس في منازلهم، والتركيز على «المسؤولية الفردية» في الحفاظ على التوازن الاجتماعي، وفي الوقت نفسه لا يزال يتعين على أعداد كبيرة من الناس الذهاب إلى العمل باستخدام وسائل النقل العامة، في حين أن حقوق العمال تُهدم، لا سيما وأن التسريح من الوظائف مطَّرِدٌ دون أي احترم للإجراءات القانونية المعمول بها؛ كما أن العمل عن بُعد يَدفُن جميع الحدود المرسومة لأسبوع العمل.

وعليه، فلا يزال الغموض مخيمًا على مسألة أي مسلك ستنتهجه الرأسمالية العالمية في ظل صدمة فيروس الكورونا – ومعها الآثار الباقية التي لا زلنا نتكبُّدها للأزمة الكبرى لـ 2007-2009. إنَّ القوة الهائلة التي تتمتع بها الدولة وقدرتها على التدخل في الاقتصاد والمجتمع من الممكن أن تؤدي – على سبيل المثال – إلى شكل أكثر سلطويّةً من الرأسمالية المُلجَمة، حيث تتخذ مصالح النخبة الشركاتية والمالية أولويةً دائمة. وهذا يتطلب من الاشتراكيين تقييم وانتقاد الإجراءات التي تتخذها الدول للتعامل مع أزمة فيروس الكورونا وبدقة.

الأزمة إلى حد اللحظة

الخطوة الأولى هي عرض ملخص تحليلي بسيط عن مسار الأزمة حتى الآن. تشكّل الأزمات دومًا أحداثًا تاريخية ملموسة تعكس التطور المؤسساتي للرأسمالية، ومن الممكن استخلاص الخطوات الرئيسة لمسار أزمة فيروس الكورونا من مجموعة من المنشورات (وبعضها لم يبرح حتى أصبح باليًا) الصادرة عن المنظمات الدولية، والصحافة، وغيرها. ونجدها على النحو التالي:

  1. ظهر كوفيد-19 في الصين في أواخر عام 2019. كانت استجابة الدولة الصينية بطيئة في البداية، وربما يعود ذلك إلى قلّة المعرفة بشأن خطورة الفيروس، غير أن دولًا أخرى لم تختلف استجابتها بطؤًا حتى بعد التفشي الواسع للوباء في الصين؛ فحتى أوائل آذار/مارس 2020، على سبيل المثال، كان عدد الحالات المشخَّصة يوميًا في بريطانيا لا يزيد عن بضعة عشرات، ولكن رغم الدروس التي كان من المفترض أن تتعلمها من التجربة الصينية، لم تتخذ الحكومة البريطانية أي خطواتٍ تُذكَر.
  2. في نهاية المطاف، أغلقت الدولة الصينية مساحات شاسعة من البلاد، واتبعت خطاها دولٌ أخرى، مما أدى إلى تقييد حركة مئات الملايين من البشر؛ انهار الطلب على السياحة، والسفر الجوي، والضيافة، والمطاعم والحانات تمامًا، كما تأثر الطلب على الغذاء والملابس والسلع المنزلية وما إلى ذلك تأثرًا كبيرًا، رغم أن الأثر الإجمالي لم يتضح بعد. ولا شك بأن الارتباك الناجم عن تراجع الاستهلاك يضرب في خطط الاستثمار، ولكن مرة أخرى، من المستحيل تقييم التأثير الإجمالي في هذه المرحلة المبكرة.
  3. كان عزل العمال وتقييد حركتهم سببًا في التعطيل الكبير لسلاسل العرض في الصين ابتداءً، نظرًا للحجم الكبير الذي تساهم به في عملية الإنتاج في مختلف أنحاء العالم. ثم جرت الأمور على المنوال نفسه في أجزاء أخرى من آسيا وأوروبا والولايات المتحدة. تضافرت هذه العمليات مع الضربة التي تلقاها الطلب لتسبب كمشًا للإنتاج.
  4. تضافر انخفاض الإنتاج وتراجع الطلب وتصاعد الارتباك لسحق عائدات الشركات، وتلا ذلك موجات من الإفلاس، مما بعث خطرًا حام على وظائف الملايين من العمال، خاصة في قطاع الخدمات، إلى أن تحقق ذلك بتسريح الملايين في آذار/مارس. وفاقم هذا التراجع في التوظيف من نقص الاستهلاك، فَزاد من ضَعفِ الإنتاج. ومع انحدار العائدات، ضعُفت قدرة الشركات على سداد ديونها، وتبخّر بذلك الائتمان التجاري. وبحلول منتصف آذار/مارس، كانت السيولة (أي العملة الصعبة) قد بلغت أقصى مستوياتها. اكتسبت الأزمة بُعدًا ائتمانيًا شديدًا، الأمر الذي زاد من تفاقم التأثير على الإنتاج والناتج.
  5. من الممكن تذوّق نكهة الانهيار الاقتصادي المحتمل بالعودة الى ما حدث في الصين لوحدها. فوفقًا للإحصاءات الرسمية، انخفضت القيمة المضافة في الإنتاج في كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير بنسبة 13.5 بالمئة بالمقارنة مع الفترة نفسها في عام 2019 (كما انخفض التصنيع بنسبة 15.7 بالمئة)؛ وانخفض الاستثمار والصادرات والواردات بنسبة 24.5 و15.9 و2.4 بالمئة على التوالي. وكان الانكماش الصيني وحده ليخلف تأثيرًا شديدًا على الاقتصاد العالمي، فكيف الحال والعديد من بلدان المركز الاقتصادي العالمي في حالة إغلاقٍ كامل؛ تنتظرنا تداعياتٌ هائلة، وخاصة في قطاعات مثل الطيران والسياحة.
  6. يحمل ذلك عواقب وخيمة على حياة العمّال، وخصّيصًا على تلك الفئات التي اُنهِكت بسبب سنوات من السياسات النيوليبرالية، مثل: الفئات العامِلة وفق عقود مرنة، والعُمال غير الرسميون، وأصحاب المهن الحرّة، كما سيتأثر أولئك المثقلون بالديون (أو من لا يملكون مدخرات) الذين لا يحصلون إلا على فوائد وخدمات عامة محدودة. وَرُبما سيكون الأثر أشدَّ على النساء لحضورهن الكبير في تلك الفئات، بالإضافة إلى الزيادة في أعمال الرعاية المطلوبة منهن في ظل المحنة الصحية، بالثقل المضاف من عدم ذهاب الأطفال إلى المدارس، وما إلى ذلك.
  7. تفاقمت الظروف العالمية مع بداية أزمة الانهيار الهائل لسوق الأسهم. فعلى مدى السنوات، شهدت أسواق الأسهم الرئيسة في مختلف أنحاء العالم تضخمًا كبيرًا، وأصبح خطر اندلاع أزمة حادة واضحًا أصلًا في عام 2018. وقد أدت صدمة فيروس كورونا إلى هبوط مذهل بمقدارٍ يفوق الثلث في الفترة من شباط/فبراير إلى آذار/مارس. كانت النتيجة محاولةُ إحكام تدفق السيولة بشكل قاطع، الأمر الذي أدى إلى اندلاع أزمة سوق المال في الولايات المتحدة – مركز التمويل العالمي – بحلول منتصف آذار/مارس. حينها تحولت الصدمة إلى أزمة رأسمالية شاملة.
  8. ومع تخييم الخوف على الأسواق العالمية، تأثر تدفق رأس المال عبر الحدود، وخاصة من مركز الاقتصاد العالمي إلى أطرافه. لا تسمح لنا الأدلة القائمة بتقديم استنتاجات قاطعة، ولكن من الواضح احتمالُ حدوث «توقف مفاجئ» من شأنه أن يُعجِز البلدان النامية عن سداد تكاليف الواردات والديون الخدمية، مما يزيد من احتمالات اندلاع أزمات العملة. وفي خضم هذه الاضطرابات، أدت حرب الأسعار الجارية بين منتجي النفط إلى انخفاض سعر خام برنت بنسبة 50 بالمئة تقريبًا من أواخر شباط/فبراير إلى أواخر آذار/مارس. وقد هدد هذا السقوط الضخم بشكل مباشر قدرة مجموعة من المنتجين في مختلف أنحاء العالم على البقاء، بما في ذلك قطاع النفط الصخري في الولايات المتحدة.

لا يمكن رؤية منطق من الناحية التحليلية لهذه السلسلة من الظواهر الأَزَمَاتية إلّا في إطار أعقاب الأزمة الكبرى لـ 2007-2009. فعشيّة تلك الأزمة، فَقَدَت الرأسمالية المالية ديناميتها السابقة في بلدان المركز، واستمرت بأشكال مختلفة في البلدان النامية. تشير تقديراتنا المستندة إلى بيانات البنك الدولي إلى أن متوسط معدلات النمو في الفترة 2010-2019 كان عند أدنى مستوياته للأربعين عامًا مضت: 1.4 بالمئة في اليابان، و1.8 بالمئة في الاتحاد الأوروبي، و2.5 بالمئة في الولايات المتحدة، و8 بالمئة في الصين.

تشير هذه المعدلات إلى استنفاد القوى المحركة للتراكم الرأسمالي، خاصة أثناء العقد الماضي. بناءً على ذلك، ومن أجل رسم تصور حول الجذور الأكثر عمقًا للوضع الراهن، يكفي أن ننظر في بعض الجوانب الرئيسة من الأزمة.

ضعفُ المراكمة

إن أبسط طريقة لتلخيص الأداء الأساسي للرأسمالية الأمريكية هو عرض معدل ربح المؤسسات غير المالية، كما هو موضح في الشكل البياني 1:

الشكل البياني 1: معدل ربح المؤسسات غير المالية، الولايات المتحدة، 1980-2018المصدر: حسابات المؤلف؛ بيانات (,BIA Nipa).

كان مسار معدل الربح منتظمًا ويتمشى عمومًا مع التقلبات الإجمالية في الاقتصاد الأميركي، وبعد نكسة أزمة 2007-2009، تعافت معدلات الربح فبلغت ذروتها في عام 2014، وعاودت الانخفاض. ومن الواضح أن صدمة فيروس كورونا ضربت اقتصاد الولايات المتحدة في وقت كان معدل الربح فيه ضعيفًا أصلًا، مع بداية ظهور علامات الإجهاد على عملية التراكم. يتجلى الضعف الأساسي أيضًا في مجموعة متنوعة من البيانات الأخرى، فبعد الفترة 2007-2009، نمت الإنتاجية بنسبة 1 بالمئة فقط سنويًا، وظل الاستثمار ثابتًا ومنخفضا عند حوالي 18 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي أن رصيد رأس المال الحقيقي تقلص بالفعل.

ومن المفيد هنا أن نقارن هذه الوضعية مع الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم. بعد أزمة 2007-2009، ارتفع متوسط معدل الربح التقديري في الصين لعدة سنوات ولكنه بدأ في الانخفاض في عام 2014، كما ظهر عليه نوعٌ من الضعف في التراكم، استنادًا إلى بيانات أخرى، وعلى الرغم من ذلك يظل أداء الصين أفضلَ بكثير من أداء الولايات المتحدة. وهكذا، بعد الفترة 2007-2009، ارتفعت الإنتاجية بنحو 7 إلى 8 بالمئة سنويًا، كما كان الاستثمار ثابتًا بشكل عام عند 45 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، مع تراجعٍ سريع لاستغلال القدرة الصناعية. فقد ضرب الفيروس الاقتصادَ الصيني في واحدة من أضعف لحظاته منذ بداية تحوله الرأسمالي.

والمقارنة بالاتحاد الأوروبي توضّح الوضع أكثر، فمجموع حجم اقتصاداته أكبر من الصين وأصغر من الولايات المتحدة. بعد أزمة 2007-2009 كان نمو الإنتاجية أسوأ من نظيره في الولايات المتحدة، وخاصةً بالنسبة لدول الاتحاد النقدي الأوروبي، حيث حققت الدول الرائدة نموًا أقل من 1 بالمئة سنويًا (وبولندا، التي ليست في الاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي، حققت إنتاجيةً تفوق 3 بالمئة). ازداد الإنتاج الصناعي بشكل كبير في ألمانيا، على الرغم من ضعف نمو الإنتاجية، مع استمرار استفادة الرأسماليين من الميزة التنافسية المكتسبة من فترة طويلة من قمع الأجور، ولكن في عام 2019 شهدت هذه المعدلات انخفاضًا معتبرًا، الأمر الذي كشف عن نفس الإشكال في ألمانيا أيضًا.

وجد الاتحاد الأوروبي، المُثقَل بسياسات التقشف، نفسه في حالة من الركود خلال العقد الماضي، وخلال نفس الفترة بدأ مجمع صناعي جديد في الظهور في أوروبا الشرقية – مثلما في بولندا – مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بالصناعة الألمانية، وقد ظلت حصة الطبقات العاملة في الناتج المحلي الإجمالي راكدة مع دفاع رأس المال عن مصالحه، إلّا في ألمانيا، حيث كان نمو الأجور كبيرًا لأول مرة منذ عقود من الزمان. ونظرًا لغياب نمو مستدام للإنتاجية، فقد انحدرت القدرة التنافسية الألمانية. وعليه، يمكننا القول فيروس الكورونا يضرب الاتحاد الأوروبي في وقت يعاني فيه من وَهَنٍ اقتصادي استثنائي هو الآخر.

ترجع جذور الأزمة الاقتصادية التي أحدثها كوفيد-19 إلى ضعف التراكم الرأسمالي في الفترة السابقة، وهو ما يتجلى بوضوح في الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، لكنَّ تأثير الأزمة قد يكون مختلفًا تمام الاختلاف في هذه الاقتصادات بسبب اختلاف هياكلها، فالصين أصبحت معمَل العالم، إذ تمثل القيمة المضافة في قطاع التصنيع حوالي 30 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي؛ يقابلها في الولايات المتحدة ما لا يزيد عن 10 بالمئة إلا القليل. وقد ارتفعت القيمة المضافة في قطاع الخدمات بشكل كبير في الصين مع ازدياد نضج الاقتصاد، لكنها لا تزال عند 50 بالمئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أنها في الولايات المتحدة تفوق 75 بالمئة، وبما أن صدمة الائتمان تقع على نحو غير متناسب على الخدمات، فمن المرجح أن تقع الصدمة على الولايات المتحدة أكثر من الصين، على الأقل في المقام الأول.

وينطبق نفس القول عمومًا على الاتحاد الأوروبي، الذي يعتمد اقتصاده بشدة على الخدمات، وخاصة في البلدان الواقعة على أطراف الجنوب مثل إسبانيا والبرتغال واليونان، التي تعاني من ضعف الصناعة وتعتمد على السياحة أساسًا. ومن المرجح أن تكون الصدمة أعظم بالنسبة لإيطاليا، التي ظلت راكدة طيلة عقدين من الزمن، ومنذ عام 2010 لم يكن عجزها عن سداد الديون أمرًا مستبعدًا. وعلى هذا فإن قيادات الاتحاد الأوروبي محقة في نظرها إلى أزمة فيروس كورونا كتهديدٍ وجودي، وهذا هو السبب وراء تدخل البنك المركزي الأوروبي على نطاق واسع، وهو أيضًا السبب وراء تحرك العديد من الدول-الأمم، التي كان إنفاقها على الأزمة سببًا في رفع القفص الحديدي للتقشف.

مِحَن القطاع المالي

بوسعنا أن نحسّن قياسنا لضَعف الرأسمالية المالية في الولايات المتحدة من خلال تفحص معدل ربح البنوك التجارية الأميركية في الشكل البياني 2:

الشكل البياني 2: معدل ربح البنوك التجارية (العائد على حقوق الملكية)، الولايات المتحدة، 1980-2018المصدر: بيانات FDIC.

بلغت ربحية البنوك التجارية الأميركية – وهي محور النظام المالي – مرتفعاتٍ تاريخية منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين وحتى قُبَيْل أزمة 2007-2009، فكان ذلك «العصر الذهبي للأَمْوَلَة في الولايات المتحدة، ويمكن ردُّ الأرباح الاستثنائية للبنوك لعامِلَين: الأول قدرتها على تأمين توازنٍ جيد بين سعر الفائدة على القروض وسعر الفائدة على الودائع، والثاني يتمثل في قدرتها على كسب رسوم وعمولات كبيرة من خلال الوساطة في المعاملات المالية بين الشركات والأسر وغيرها من المؤسسات المالية. وبعد فترة 2007-2009، لم تَعُد ربحية البنوك إلى نفس المرتفعات، وذلك يرجع إلى خفضِ الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة إلى ما يقرب الصفر، الأمر الذي أدى إلى كمش الفروق في أسعار الفائدة على البنوك، بالإضافة إلى انخفاض الدخل المتأتي من الرسوم مع انخفاض حجم المعاملات المالية. ولفترة وجيزة من عام 2018 مرّت ربحية المصارف بطفرة، ولكن سببها المرجّح هو رفع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة رفعةً طفيفة في الفترة 2017-2018.

يمكن تفحص العقد الذي يلي فترة 2007-2009 بالنظر إلى مسار الدَّيْن في الولايات المتحدة بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي في الشكل رقم 3، مقسمًا إلى دَيْن 1) المؤسسات غير المالية، و2) الأسر، و3) الحكومة، و4) المؤسسات المالية المحلية، وكلها، كما أسلفنا القول، نسبةً إلى الناتج المحلي الإجمالي:

الشكل البياني 3: الدين القطاعي في الولايات المتحدة بالنسبة الى الناتج المحلي الإجمالي.

المصدر: St Louis FRED data

يُمكن ملاحظة أن الديون الخاصة انخفضت في الولايات المتحدة (بما يتناسب مع الناتج المحلي الإجمالي) بعد فترة 2007-2009، على النقيض مما تدعيه بعض التعليقات التي تتحدث عن «انفجار الدَّين». فقد انخفضت ديون الرهن العقاري بشكل كبير مع تضرر الأسر بشدة أثناء الأزمة المعنية، كما انخفضت الديون بين المؤسسات المالية المحلية، مما يترك مجالاً أقل للبنوك لكسب الرسوم والعمولات. وفي المقابل، بدأ دين الشركات غير المالية في الارتفاع في عام 2015، ليتجاوز في نهاية المطاف ذروته السابقة قبل الأزمة الكبرى.

أدى ارتفاع ديون الشركات إلى تمكين عدد كبير من المؤسسات الضعيفة، ذات الربحية المنخفضة، من البقاء. لكنها في المقابل عرضة للانهيار في وجه أي صدمة. وتشير التقديرات لعام 2017 إلى أن هذه «الشركات الميتة-الحية» تمثل 12 بالمئة من إجمالي الشركات في أربعة عشر اقتصادًا من الاقتصادات المتقدمة، ويبقى أن نرى كيف ستؤثر أزمة فيروس كورونا على قدرتها على سداد أقساط ديونها، مع الأخذ في الاعتبار أن أسعار الفائدة التي تقترب إلى الصفر تؤدي إلى خفض تكاليف الخدمة.

ولكن الزيادة الحقيقية أثناء هذه الفترة كانت تخص ديون الدولة، الأمر الذي جعل حكومة الولايات المتحدة أكثر مديونية من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية. وما ظهر على الأمولة من دينامية – وإن كانت محدودة – بعد الأزمة الكبرى لم يكن إلّا عملية مُضاعفة مديونية الدولة، التي كانت مرتبطة أيضًا بمديونية المؤسسات في الأسواق المالية المفتوحة – بما في ذلك سوق الأوراق المالية.

دور الدولة وانفجار فقاعة الأسهم

بعد الأزمة الكبرى، تدخلت حكومة الولايات المتحدة لرأب الصدع واستخدمت قوتها الهائلة في الدفاع عن الرأسمالية المُأَمْوَلَة والمعولمة. على ذلك صارت الدولة تعاني من عجز مالي ضخم طوال العقد الماضي – وخصوصًا في 2009-2012 ومرةً أخرى في فترة 2018-2019 – وعليه دعمت نمو الناتج المحلي الإجمالي، في حين تزايدت ديونها زيادة هائلة. وقد أتاحَ ارتفاع الدين العام للاحتياطي الفيدرالي القدرة على دعم زيادات هائلة في طباعة الأموال، مع المحافظة، من جهة أخرى، على أسعار الفائدة في حدود الصفر. ارتفع ضخ النقد من 50 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2007 إلى 70 بالمئة في 2017-2019.

سمحت أسعار الفائدة المنخفضة والسيولة الوفيرة للشركات غير المالية بالاقتراض بتكاليف زهيدة في الأسواق المفتوحة والانخراط في لعبة الأمْوَلَة الكلاسيكية، لعبةُ «إعادة شراء الأسهم»، بتأمين أرباح عالية للمساهِمين وحمل الأسهم على الارتفاع من جديد. ومع توفر المال بسهولة، أقدم متعهدون آخرون في سوق الأوراق المالية، وفي المقام الأول صناديق الاستثمار المتداولة وصناديق التحوط، على توسيع أنشطتهم، فكانت النتيجة ارتفاعًا تدريجيًا ومستدامًا في سوق الأوراق المالية، مع ارتفاع مؤشر ستاندرد آند بورز من 735 في شباط/فبراير 2009 إلى 3,337 في شباط/فبراير 2020. وباختصار، بعد فترة 2007-2009، أدى تدخل الولايات المتحدة لدعم الرأسمالية المُأمْوَلَة إلى نشوء فقاعة في سوق الأوراق المالية غير مرتبطة بتاتًا بالضعف الأساسي في الربحية، ومعدلات النمو، ونمو الإنتاجية، وما إلى ذلك.

وكل هذا من شأنه تيسير فهم الصدمة المالية الناجمة عن أزمة كوفيد-19. لقد كان من الواضح أصلًا أن فقاعة سوق الأوراق المالية لن تدوم خلال الفترة 2017-2018، وخصّيصًا مع اتّجاه الاحتياطي الفيدرالي لرفع أسعار الفائدة ببطء إلى ما فوق الصفر، في محاولة لاستعادة الظروف الأكثر طبيعية في الأسواق المالية. ففي كانون الأول/ديسمبر 2018، انهار مؤشر ستاندرد آند بورز لفترة وجيزة إلى 2,416، ولكن الاحتياطي الفيدرالي سرعان ما عكس الزيادة في أسعار الفائدة، واستؤنفت الفقاعة. وفي المقابل، ولأسباب سبق شرحها، وجّه فيروس كورونا ضربة أشدّ بمستويات، مما أدى الى انهيار سوق الأسهم بشكل مذهل، فبلغت نفس المؤشرات 2,237 في 23 آذار/مارس 2020، وكان الإعلان الذي أصدرته إدارة ترامب في وقت لاحق عن تدخل مالي ضخم سببًا في دفع مؤشر ستاندرد آند بورز إلى الارتفاع من جديد، بالرغم من أن التقلبات لا تزال مرتفعة للغاية.

وقد كشف انهيار سوق الأسهم عن المزيد من عمليات المضاربة التي أدت إلى تفاقم الأوضاع في الأسواق المالية بشكل كبير، كما فرض الهبوط الحاد للأسعار ضغوطًا هائلة على صناديق الاستثمار، الأمر الذي اضطرها إلى البحث عن العملة الصعبة للوفاء بالتزاماتها. ثم تبين أنه قد أُنشِأت سلاسل للمضاربة اقتُرِضت بموجبها هذه الأموال في سوق إعادة الشراء (السوق الرئيسة للسيولة بين المؤسسات المالية)؛ ومن خلال بيع سندات الخزانة الأميركية ثم استخدام الأموال لشراء سندات الخزانة في الأسواق الآجلة، استفيدَ من الفوارق الطفيفة في الأسعار. مع انهيار أسعار الأسهم، بيعت صناديق السندات على نحو متزايد الاستِماتة، ما دفع واقع الأمر أسعار الفائدة إلى الارتفاع مُجددًا.

وعليه، فقد وجد الاحتياطي الفيدرالي نفسه في مواجهة هذا الموقف الغريب الذي يتمثل في انخفاض سريعٍ للسيولة وارتفاع أسعار الفائدة في أسواق المال، وذلك رغم أن الاقتصاد الأميركي ظل مُغرقًا بالدولارات لأكثر من عقد من الزمان. أوليس هذا تبيانًا منقطع النظير للعبثية الرأسمالية؟ كان لازمًا على الاحتياطي الفيدرالي أن يتدخل على وجه السرعة متعهّدًا بشراء كميات غير محدودة من السندات العامة بل وحتى السندات الخاصة، وبالتالي زيادة المعروض من المال. وسرعان ما جاء تدخل الولايات المتحدة الهائل، مصحوبًا بحزمة مالية ضخمة. ومرة أخرى، وضعت الدولة الأمريكية كل الدعم الممكن من أجل إنقاذ الرأسمالية المالية المنهارة.

من المهم في هذا الصدد ملاحظة الفرق بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. فقد سمحت المفوضية ضمنيًا للبلدان الأعضاء بتجاهل ميثاق الاستقرار والنمو، فتخلى البنك المركزي الأوروبي عن قواعد شراء السندات في محاولة لتجنب تخلف إيطاليا عن سداد ديونها، وهو ما من شأنه أن يحفز على الفور اندلاع أزمة جديدة في منطقة اليورو. سمحت هذه الإجراءات الهامة للدول-الأمم في الاتحاد الأوروبي بالعمل دون عراقيل غير لازمة، ولكن لم يحدث أي تدخل مالي منسّق من قِبَل مؤسسات الاتحاد الأوروبي شبيه بما حدث في الولايات المتحدة، أو حتى في المملكة المتحدة.

والواقع أن الأزمة أرغمت الاتحاد الأوروبي على الدخولِ في سياسة اقتصادية كان يعمل بجدٍّ لتجنبها. فقد أدارت الدول-الأمم الوضع حتى الآن دون تعاون أو ضبطٍ متبادل يُذكر، كما أن مشكلة الصراعات الداخلية والهرمية القديمة بين هذه البلدان لم تختفي، ولهذا السبب فإن المقترحات الداعية لإصدار «سندات الكورونا» على مستوى الاتحاد الأوروبي لتمويل الإنفاق الحكومي تواجه مقاومة قوية.

 إذا كان للأموال أنّ تُوفَّر للدول المتضررة، فقد يجرى ذلك من خلال آلية الاستقرار الأوروبي، مع إرفاق عدة شروط مختلفة. لا يُوجد على كلٍّ أي تشابه مع استجابة الولايات المتحدة الأميركية.

ماذا بعد؟

تمثل أزمة فيروس كورونا لحظةً حرجة في تطور الرأسمالية المعاصرة، ولا شك أنَّ الأزمة لم تنتهي بعد – وقد يتطلب إدراك تأثيرها الكامل على الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والصين، واليابان، والدول النامية بعض الوقت. ولكن ما لا شك فيه هو أنها بعثت شبح تهديد الكساد الهائل على الاقتصاد العالمي ككل. فقد كشفت حالات الطوارئ في الصحة العامة كشفًا صارخ عن الفشل المنظومي للأَمْوَلَة والعولمة، فتبيّن تورُّطُ الدولة المتزايد في دعم هذا النظام الفاشل. بيد أن طبيعة تدخلات الدولة لا توحي بحصول تحوّلاتٍ في قمة الهرم السياسي والاجتماعي من النوع الذي يفضي إلى سياسات تخدم مصالح العمّال.

والواقع أن قرار حكومة الولايات المتحدة زيادةَ عجزها – وبالتالي اقتراضها – زيادةً مهولة بالتزامن مع عملها على توسيع معروضها من المال وخفض أسعار الفائدة إلى الصفر، هو في الأساس نفس قرارها بعد أزمة 2007-2009. وحتى إذا ما تُجُنِّبَ الكساد فليس من المرجح أن تختلف النتائج على المدى المتوسط، وذلك لأن الضعف الأساسي الذي يعتري التراكم الرأسمالي لن ينتفي. ما يمكننا التأكيد عليه هو أنَّ الدفاع عن المنظومة النيوليبرالية سيخلق تناقضاتٍ سياسية، خاصةً في ضوء استعراض قوة الدول القومية في التدخل في الاقتصاد. ولهذه التناقضات أهمية خاصة في الاتحاد الأوروبي، حيث أتت الاستجابة المالية والصحية الطارئة للأزمة من الدول-الأمم كلٌ على حدة، حتى الآن، وليس في إطار المؤسسات المتعددة الأطراف.

لقد أثارت هذه الأزمة، التي تلقي بضوء ساطع على أوجه القصور في النيوليبرالية، إثارةً مباشرة مسألة إعادة التنظيم الديمقراطي للاقتصاد والمجتمع على حد سواء لصالح العمال. وتوجد حاجة ملحة إلى مواجهة فوضى العولمة والأمولة من خلال طرح مقترحات جذرية ملموسة؛ يتطلب ذلك أشكالًا من التنظيم قادرة على تغيير التوازن الاجتماعي والسياسي لصالح العمّال.

أظهر الوباء إلى المقدمة القضايا الحيوية للتحول الاجتماعي. وقد بيّنَ بوضوح ضرورة وجود نظام صحي عام ومنظم تنظيمًا عقلانيًا وقادرٍ على التصدي للصدمات الوبائية، كما فرضت الحاجة الملحة إلى التضامن، والعمل المجتمعي، والسياسات العامة لدعم العمال وأشدّ الناس فقرًا في وجه الإغلاق، والبطالة، الانهيار الاقتصادي.

وعلى نطاق أوسع، تنبهنا هذه الأزمة للحاجة التاريخية إلى مواجهة نظام متدهور ملتحم بعبثيته. ومع عجز الرأسمالية المُعَوْلَمَة والمُأَمْوَلَة عن تغير نفسها عقلانيًا، ها هي تستمر في اللجوء إلى جرعات متزايدة من نفس المسكنات الكارثية. يتلخص المتطلب الأول في هذا السياق في الدفاع عن الحقوق الديمقراطية ضد الدولة الخطرة والإصرار على حقِّ العمّال المهم في كل عمليات اتخاذ القرار. وعلى هذا الأساس فقط يصبح من الممكن اقتراح بدائل جذرية، بما في ذلك تدابير واسعة النطاق، مثل صياغة سياسة صناعية لمعالجة ضعف الإنتاج، وتيسير النقلة إلى منظومة مستدامة بيئيًا، والتصدي للتفاوت الكبير في المدخول والثروات، ومواجهة الأَمْوَلَة من خلال إنشاء مؤسسات مالية عامة. لقد نجحت أزمة فيروس الكورونا أصلًا في تحويل شروط الصراع السياسي، ويتعين على الاشتراكيين أن يستجيبوا بشكل عاجل.

المصدر: مجلة جاكوبين

Skip to content