«الجيل الخطأ»: لا فرادة ولا إبداع ولا بناء

قوبلت المحاولات الأخيرة لقتل الفعل الثّوري في الشارع التّونسي بقوّة. فشارع اليوم ليس شارع الأمس الذي طالما احتكرته الدّولة وحدها وتسيّدت فيه بالقوّة. شارع ما قبل الثّورة كان شارع الحضور الكامل للنّظام وما يقابله من غياب كامل للشعب. هو تغييب قسري ثبّتته سنوات الاستبداد حتّى صار الشارع في مخيّلة التّونسيين هو ملك للدولة وحدها وفيه تعبّر عن وجودها وتمارس سطوتها. لكن، شارع الثّورة وما بعد الثّورة لم يعد ذلك الشّارع الذي يرتدُّ فيه غضب إنسانه إلى الداخل قسراً. هو الشّارع الذي كسر فيه الشّعب تأبيد تصوّر الدولة أنّها وحدها التّي تمتلكه. والبولسة تريد للإنسان أن يعود إلى ما كان عليه موجّهاً غضبه إلى الدّاخل لا إلى الخارج، أي الشّارع. صارع الشّعب الدّولة على امتلاك هذا الفضاء واستردَّ حق التّواجد فيه، هو استرداد كان له أثر الفراشة على شوارع دول أخرى في المنطقة. 

واليوم، الدّولة تزاحم الشّعب على ملكيّة الشّارع محاولة إعادة إنتاج التراتبيّة التّي تحكمه على شاكلة ما كان عليه في عهد الاستبداد. وهذا ما لم يعد ممكناً اليوم. وما حدث مؤخّراً في شارع الحبيب بورقيبة، الشّارع الرئيسي في العاصمة التّونسية، هو شكل من أشكال الحماس المناضل الجريء الذي حرّكه خوف على الجماعة من خطر إعادة احتكار الشّارع عبر إعادة «بَوْلَسة» الدولة. إعادة البولسة خطر فعلي تمَّ الكشف عنه في شوارعنا مؤخّراً. هذا الحماس هو استجابة انفعاليّة سريعة ومحقّة جدّاً للمنسوب المفرط من العنف الذي صدر عن الأمن والذي رافق عشريّة الثورة. هذا الكم الهائل من العتاد المستورد والذّي لم نألف رؤيته في شوارعنا حتّى زمن الديكتاتورية يمثّل مفارقة مخيفة وخطيرة تفرز تلقائيّاً تحرُّكا لشارع ما بعد الثّورة.

الجيل الخطأ أو «أنتيفا» التونسية

لكنَّ تحرّك الشّارع هذه المرّة، فرض علينا وقفة نظر في ما استجدَّ فيه. فقد كسر المعياريّة الاحتجاجيّة و«المقبول تونسيًّا» في شوارعنا، وما يستلزم الوقوف هو أن تحرّك الشارع لم يكن تونسيًّا خالصًا، فهو تحرّك برزت فيه أعلام «أنتيفا» التّي رفعتها مجموعة من الشّبان تقدّم نفسها على أنّها «الجيل الخطأ»، بحيث لا يمكن الحديث عن «الجيل الخطأ» دون الحديث عن معنى «أنتيفا»، لاندراج «جيل الخطأ» تحت رايتها. ولإيضاح المعنى اللغوي، «أنتيفا» هي اختصار لكلمتي (Anti)، أي: «ضدَّ»، و(fascist) أي: «الفاشيّة»، ويقصد بها حركات «مناهضة الفاشيّة». وهي نوع من الحركات اليساريّة مقصدها مناهضة الفاشية، أي أن وجودها يفترض مسبقًا وجود الفاشيّة، أو وجود اليمين المتطرّف فاشي الميول وليس وجودها محكومًا بالفشل العام للتّنظيمات اليسارية ولا بفشل المنظومة الحزبيّة ككل في تونس كما يشير الكثيرون. وحتى وإن لم يعد العمل السياسي التقليدي مجديًا، فهذا لا يعني أن الانضواء تحت حركة متعديّة للقوميّات أمرٌ مجدٍ.

لشرح نشأة حركات مناهضة الفاشية علينا العودة إلى عشرينيّات القرن الماضي، حيث برزت هذه الحركات كنقيض لأوائل الحركات الفاشيّة والنّازية الأوروبيّة، في مواجهةٍ لصعود ميليشيا «القمصان السوداء» التابعة لموسليني في إيطاليا و«الأقمصة البنية» أو «كتيبة العاصفة» التابعة للحزب النازي في ألمانيا والتي كانت الأساس الذي بنيت عليه الفاشية التي سادت على أوروبا في النصف الأول من القرن، عمدت التنظيمات الاشتراكيّة والشيوعيّة والفوضويّة المختلفة على التنظيم للتصدّي لها. وإن كانت تلك الحلقة الأولى في ظهور هذه التحركات فقد تلتها حوادث أخرى، مثل ما برز إثر سقوط جدار برلين، عندما اجتاحت موجة من الحركات «النازيّة الجديدة» مختلف أنحاء البلاد مستهدفة المهاجرين. وأما في الولايات المتّحدة الأمريكيّة فقد شهدت الحركة ولادتها الأولى خلال الثمانينيّات، ضمن مجموعة تُدعى «العمل ضد العنصريّة» لمواجهة النّازيين الجدد وتلاشت مع بداية الألفيّة الحاليّة. وعادت الحركة إلى نشاطها مع مجموعة «مناهضة الفاشية بروز سيتي» (Rose City Antifa) التّي تأسّست عام 2007 في بورتلاند في ولاية أوريغون شمال غربيّ البلاد، واكتسبت الحركة مؤخّرًا زخمًا لمواجهة الحراك اليميني للقوميين البيض والنازيين الجدد والمتزامن مع صعود ترامب للرئاسة. وظهرت في الهند، حيث تتسيّد «القوميّة الهندوسيّة» (هندوتفا) ذات النزعة لفاشية بقيادة حزب بهاراتيا جاناتا (BJP)، لمواجهة هذا الخطر الذي تعود جذوره إلى عشرينيّات القرن الماضي مع نشأة منظمة التطوع الوطنية (RSS)، المنظمة  اليمينية المسلحة ذات التوجه القومي الهندوسي والميول النازية. وبإيجاز، خلال قرنٍ من عمر الحركة المناهضة للفاشية في شتى دول العالم، كان وجودها مرتبطًا دائمًا بصعود الفاشية، ونادرًا ما نجحت في التصدّي للصّعود الفاشي.

اللغة الشعاراتيّة للجيل الخطأ

وبالعودة إلى التّحركات الأخيرة لـ«جيل الخطأ»، فقد حضرت الانجليزيّة بشكل ملفت في الشّعارات التّي رفعها المنضوون تحتها، واللغة الانجليزيّة لا تصل إلى جميع الفئات المجتمعيّة، وتكون بهذا الشكل موجّهةً لفئةٍ معيّنةٍ، والمرجو منها هو تفاعل الخارج معها أكثر من الداخل. وأمّا عن تأثيرها في الداخل، فكيف يمكن للشّارع أن يفرض على السلطة لغته إذا كانت لغته تعتمد على منظومة لغويّة غير تلك التّي تفهمها السّلطة وعامّة النّاس على حد سواء؟ الشّعار لا يخترق جدار السّلطة إذا كان رافعوه في قطيعة لغويّة مع المكان الذي يوجدون فيه معها. وفي هذا الخصوص، يقول نادر سرّاج في كتابه «دراسة لسانيّة لشعارات ثورة مصر»: «إنّ اللّغة الشعاراتية لا تختلف وظائفها عن وظائف اللّغة عمومًا لِجِهة أنّها استجابيّة ومعرفيّة وتواصليّة وتمثيليّة واجتماعيّة».

ومن بين الشعارات التي رفعها «الجيل الخطأ» بالإنجليزيّة شعار (You fucked with the wrong generation) – أي: «لقد عبثتم مع الجيل الخطأ» – الذي قُدِّم على أنّه شعار أُنتج محليّا في حين أنّه ليس كذلك، بل هو مقتبس بكليّته من أغنية «الجيل الخطأ» (Wrong Generation) من ألبومٍ بالاسم نفسه لفرقة الروك الأميركية (Fever 333) المناهضة للسياسات اليمينية الأمريكية والمساندة لحركة «حياة السود مهمّة» (Black Lives Matter)، وقد كتب المغنّي الرئيس للفرقة جيسون بتلر كلمات الأغنية بعد أيام قليلة من مشاركته في المظاهرات التي اجتاحت البلاد احتجاجًا على قتل جورج فلويد على يد الشرطة الأمريكيّة. وفي يوم إعلان موعد إصدار الألبوم، 8 أكتوبر 2020، رُفِع الشعار في تونس. وهو أحد الشّعارات المعولمة، فقد رُفع داخل الكيان الصهيوني ضدَّ نتانياهو في الشهر نفسه، ورُفع في البيرو في وجه السّلطة في ديسمبر من العام نفسه، ورفعه مؤخّرًا شباب ميانمار في وجه الجيش الذي استولى على السلطة بعد الانقلاب على أون سان سو تشي المنتخبة ديمقراطيًّا.

وعن تسمية «الجيل الخطأ» فهي تسمية متعالية كثيفة بالفئويّة وفقيرة تواصليًّا ومن ثمّ علائقيًّا مع بقيّة أبناء الجيل نفسه وأبناء الأجيال الأخرى. وشعار «لقد عبثتم مع الجيل الخطأ» هو شعار تتوجّهُ به مجموعةٌ صغيرةٌ من النّاس إلى السّلطة فاصِلةً بذلك نفسها عن بقية المحتجِّين، في حين أنّها تتشارك معهم الحيز نفسه، الشّارع. وفي هذا نزعة انعزاليّة في الشّارع لا تؤسّس للتجميع ضدّ السّلطة القمعيّة. ولا صدى لهذا الشّعار خارج «الجيل الخطأ»، ولا يمكن أن يلقى الرواج الذي لقيه مثلًا شعار «الشّعب يريد»، فالأخير شعارٌ إدماجي تجميعيٌّ، يقبل ضمّ جميع الناس، المتجمهرين في ساحات الاحتجاج أو الأغلبية الصامتة المتجمهرة داخل بيوتها، وفيه استحضارٌ لمخزوننا الثقافي ولنشيدنا الوطني، ومن هنا كان التفاعل الشّعبي معه والتّجمهر حوله. وأما «الشّعب يريد إسقاط النّظام» فهو شعارٌ أعطى الثورة التونسيّة هويّتها الشعبيّة، بل هو شعارٌ محليٌّ أعطى قيمة كونية لثورتنا، في حين أن شعار «لقد عبثتم مع الجيل الخطأ» ليس محليًّا وتسميةُ الحركة بمسمّىً غير محليّ كلاهما لا يؤسسان للربط مع الآخر. فتمييزُ شباب «الجيل الخطأ» أنفسهم عن البقيّة باعتماد هذه التسمية جعل الكثيرين «يتنبهون» إلى أنّهم صاروا من «قدماء» الثّورة. وهو اكتشاف جعل البعض من «قدماء الثّورة» يقدّم اعترافات دراميّة بأنّ الثورة قد تجاوزتهم، وأن جيل أطفال الثّورة تجاوزهم وأنّه لم يعد لديهم ما يشاركون به في الفعل الثّوري. وهي اعترافات انهزامية خالية من المعنى حرّكها تعالي المنضوين تحت هذه الحركة وتعبيراتهم المختلفة في الشارع.

رفع «الجيل الخطأ» شعارًا آخرَ بالإنجليزية أيضًا هو (Defund the Police) أي «اقطعوا تمويل الشرطة». وقد رُفِع هذا الشعار أصلًا في الولايات المتّحدة الأميركيّة في وجه الشرطة، وَمن ثم رُفع في تونس دون أي اعتبار لأولويّة الواقع الاجتماعي (بالاصطلاح الماركسي: البنية التحتيّة) على ما تفرزه من أفكار (في البنيّة الفوقيّة)، فالواقع هو الذّي يشكّل الوعي وينتج الفكر والشّعار أيضًا، وليس العكس. السّلطة هي من ينتج الشّعار الذي سيُرْفع ضدّها. والشّعارات المرفوعة في الاحتجاجات تعبّر عن وعي معيّنِ لرافعيها ومتبنّيها، وهو وعي يفرزه منطقيًّا واقع هؤلاء، ومن هنا لنا أن نتحدّث عن وزن للشّعار وطاقة استقطابيّة له وخاصّة عن تأثير له قد يدفع بالتّغيير. لكن أن يُأتى بشعار أنتجته سلطة أخرى وواقٌع آخر مختلفٌ اجتماعيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا وتاريخيًّا وسياسيًّا ونسقطه على واقعنا ونرجو منه تأثيرًا فهذا هراء، وبكلمة: الشعار فارغ المضمون في الداخل التّونسي. 

الشرطة الأميركيّة جهازٌ عنصري نشأ في بلد للتمييز العنصري جذور تاريخيّة فيه. وعدد السّود الذين وقعوا ضحايا جرائم القتل التّي ارتكبتها الشرطة روتينيًّا مخيف، وما تعرضوا له من السطوة القاتلة للأجهزة الأمنية (من قوىً رسمية وميليشات غير رسمية) هو ما أنتج شعار «اقطعوا تمويل الشّرطة»، فعدد السّود الذين وقعوا ضحايا جرائم القتل التّي ارتكبتها الشرطة روتينيًّا مخيف. ومن هنا كان لهذا الشعار عمق مضموني في بيئته.  لكن، إسقاط هذا الشعار على الواقع التونسي، وواقع جهاز الأمن التونسي هو بمثابة القفز على الواقع، ومن يقفز على واقعه سيعجز عن تغييره.

وبعيدًا عمّا في هذا الإسقاط من تبعيةٍ للمهيمن ثقافيًّا، فاستجلاب شعار من واقعٍ وتجربةٍ مختلفين يستلزم «تونسته»، أي تكييفه وفق الواقع التّونسي، ليصير شعارًا وازِنًا في الشارع وحاملًا لإمكانيّة التّغيير. ونحن في الواقع لسنا بحاجة لذلك بالمرّة، فواقعنا الآسن كفيلٌ بإنتاج شعاراته الخاصّة به. في التأكيد على «الإنتاج الشّعاراتي» القاعديِّ التصاقٌ بواقعنا التّونسي. والحق يقال، أتى «الجيل الخطأ» بشعاراتٍ أخرى تشير إلى أنّه خلق أيضًا لغته الشّعاراتيّة وتعبيراته انبثاقًا من عندنا، ما يعني أن الشعارات قد تحمل في داخلها التأثير المرجو منها، ومن بين هذه الشعارات: «سيّب البلاد» و«تسقط دولة البوليس»، وربّما أكثر هذه الشعارات إبداعيةً هو «تحت الزليز برشا تكريز» أي «تحت البلاط الكثير من الغضب». وهذا الشعار يصل ويؤثّر، فهو شعارٌ حيٌّ. 

تحدّث نزار قباني عن الكتابة باعتبارها عملًا انقلابيًّا. والكتابة الشّعاراتيّة يجب أن تكون انقلابيّةً نقيضة للنسخ والإسقاط كي تؤثر. من نافلة القول إنّ اللّغة الشعاراتية ليست في بوتقة جامدة فهي تتأثّر بما يحدث في العالم من احتجاجات لكن يوجد بون شاسع بين التأثّر والتفاعل من جهة، والإسقاط المُبْطِل لأي فعاليةٍ مأمولة من جهة أخرى.

حدود «أنتيفا» التونسيّة

وبعيدًا عن الكتابة الشعاراتية، يرى الكثيرون أنّ «الجيل الخطأ» بإمكانه أن يكون محرِّكًا للتّغيير، بل من الناس من ذهبت به اندفاعيّته في تقييم الحركة وربّما حماسته إلى القول بأن «الجيل الخطأ» أثبت نفسه كـ «بديل يساري شبابي جدّي» وكقوّة سياسيّة وازنة. لكن حركات الأنتيفا لا تأتي كبديل لأيِّ طرف، وكما أسلفنا القول، وجودها مرتبط بوجود الفاشيّة، فهي ليست حركة بناءٍ بل تفكيك، تفكيكُ الفاشيّة وتفكيكُ هياكل السّلطة، بما في ذلك جهاز الشّرطة، أو قد تكون حركة دفاعٍ استباقيّة تحمي الجماعةَ من خطر ما ترتئيه بوادر للفاشيّة، وتنكفئ عند زوال هذا الخطر، وتعود حال رجوعه. فهي إذن حركةٌ لا تذهب إلى أبعد من ذلك، أي أبعد من حدودها التي رسمتها لنفسها منذ التأسيس، أي منذ قرن.

وأمّا الحديث عن «الجيل الخطأ» كقوّة سياسيّة، فهذا ليس ما تسعى إليه الحركة، فهي حركة هامشيّة لا تسعى لأن تكون فاعلًا سياسيَّا يزاحم بقيّة القوى السياسية، وحتى من حيث الحجم، من الصعب أن تصير «الجيل الخطأ» وازنةً، فهي لا تسعى إلى الاستقطاب من أجل الانخراط، بل «الجيل الخطأ» أو «الأنتيفا التونسيّة» – على عكس اعتقادٍ شائع – ليست معنيّة بتوسيع الـ «نحن» الرافضة للمنظومة الحاكمة، وإن كانت قد تُحدِث زخمًا احتجاجيًّا يلتفُّ حوله معارضون آخرون، فالانتماء إليها يظلُّ محدودًا جدًّا. ففي سياق الانتماء لها، يقول أستاذ التاريخ الأمريكي بجامعة رتغرز مارك براي في كتابه «أنتيفا: دليل مكافحة الفاشيّة» الذي اعتمد في كتابته على حوارات مع 61 من عناصر حركات مناهضة للفاشية في 17 دولة:

إنّ الانضمام لإحدى هذه المجموعات يعني الالتزام بإنفاق وقت كبير عليها، وعمليّة الفحص التي تتّبعها هذه المجموعات في التجنيد عسيرةُ الاجتياز، ويتبعها التزامٌ كاملٌ، وكأنها وظيفة ثانية، ما يقلّل من ذوي الاستعداد للانشغال بهذه الوظيفة، ولذلك لا أعتقد أن أعداد عناصر حركة أنتيفا سيزداد زيادةً ضخمةً، كما حدث مع بعض الحركات الأخرى. 

حركة أنتيفا ليست مثل حركة الحقوق المدنيّة الأمريكيّة الأفريقيّة في خمسينيّات وستينيات القرن الماضي التي وسّعت قاعدتها ودفعت بمطالبها نحو التقنين الملزم للدولة وللأفراد وللمجتمع، أو مثل حركات التحرر من الاستعمار التّي بنت الدول الوطنيّة، وهي ليست حركةً نشطةً في إطار المجتمع المدني، مثل الحركات العماليّة والنسويّة في تونس وفي العالم التّي دفعت بالعديد من مطالبها إلى التّحقق عبر تقنينها. وهي ليست معنيّة بالدفع بالفعل الحركي الجماعي نحو الفعاليّة السياسيّة المرجوّة للنّهوض من أزمتنا الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة. فأنتيفا تجتمع مع العديد من الحركات المناهضة للرأسماليّة والهيمنة الأميركيّة وتلتقي معها في الشارع لكنّها لا تلتحم معها تنظيميًّا بغرض البناء.

و«الجيل الخطأ»، على غرار جميع مجموعات أنتيفا في العالم، هي حركة أفقية، غير زعاماتيّة، أي لا تحكمها التراتبيّة والهرميّة. وحسب مارك براي فإنّ «المنتمين إلى الأنتيفا يصفون أنفسهم بالثّوار، فهم شيوعيّون وأناركيون بعيدون عن الطّيف الليبرالي التّقليدي المحافظ. ولهذا السبب فهم لا يكترثون للأعراف التقليديّة، ولا يشعرون أنّهم ملزمون بها»، لكن أفقيّة هذه الحركة لا تنفي تنظيم أعضاءها ضمن حركة «أنتيفا» المتعديّة للقوميّات، وهذا التنظيم يفرض على المنتمين لـ «الجيل الخطأ» الالتزام بضوابط الحركة وبالمسموح به وغير المسموح به. فالمنتمون للحركات المناهضة للفاشية مُلزمون بعدم التّحدث لوسائل الإعلام، وأغلبيتهم ملزمون بإخفاء هويّاتهم، وهم تنظيميًّا يعتمدون على خلايا محليّة مستقلّة تدير نفسها ذاتيًّا، وذلك امتثالًا لخطوط الحركة ومبادئها، فهي حركة تدعو للتّحرر من كل أشكال السّيطرة، لكن أين التحرر في التنظّم وراء حركة تقنّن تفاعل أعضائها مع الآخرين؟

هذا الانتماء هو، بشكل أو بآخر، انتماءٌ لنحنٍ «أنتيفيّة». والنحن، أيًّا كانت، تفرض على الجميع التبعية والقطيعية وتسلب المبادرة وروح الإبداع والابتكار الذاتي. والانتماء لحركة جاهزة يفوّت أكثر فرص الإبداع والتفاعل الإبداعي مع الآخر، ولن يولد الإبداع من رحم التقليد والانعزالية. ولن تنبثق الحريّة من التّشابه. وأغلب ما صدر عن «الجيل الخطأ» في الشارع في مواجهته المباشرة والصدامية مع الأمن – بعيدًا عن أيِّ قراءة أخلاقوية – لا يتعدّى الاستنساخ والتقليد عن الخارج، تقليدٌ خاله الكثيرون إبداعًا. 

وصفت الكاتبة التّونسية صوفي بسيس اعتصام القصبة، حيث تجتمع كل الرّموز الحكوميّة، الذي طالب فيه المعتصمون برحيل الحكومة التّي نُصّبت بعد الثّورة مباشرة بأنها «كونيّة» وقالت: «كانت الساحة ممتلئة بغرافيتي من كل اللّغات وبشعارات من كل المرجعيّات الثوريّة العالميّة، من ثورة 68 ومن كل العالم، من كل مرجعيّة تمس حساسيّتهم الثوريّة في تلك اللّحظة». وقد رفع المحتجّون شعارات تونسيّة ذات نزعة كونيّة تنادي بقيم لا خلاف حول كونيتّها». وهذه الكونيّة «التفاعليّة» لم تكن حاضرة مع «الجيل الخطأ، إذ حضرت، في جزء كبير، «الكونيّة» حبيسة التقليد والإسقاط على واقع تونسي لا تاريخ فيه للفاشية ولا تتوفرُ فيه حتى شروط قيامها، وهنا يمكن الحديث عن سببيّة وجود حركة مناهضة للفاشيّة في تونس. 

حركة مناهضة للفاشية في تونس؟

 لنتوقف قليلًا للحديث عن الفاشية التّي تقهقرت في أوروبا بأنظمة كانت موغلة فيها لم تتوان عن المضيِّ في الإبادة والتطهير العرقي. فجوهر الفاشية هو «الولاء أوّلًا وأخيرًا للأمة»، فـ «الأمة» فوق الجميع، وهذا الولاء المتعصب للأمة غالبًا ما يكون مصحوبًا بالتعصب القومي العنصري أو التعصب الديني المتشدد، وما يلحقهما من عِداء شديد للأقليات والأجانب والذكوريّة الفجّة، وحَل كافة أشكال التنظيم النقابي، والعسكرة الممنهجة للتّنظيمات الاجتماعيّة، إلى آخره. الفاشيّة شعبوية للغاية، وتخاطب العاطفة، وكل فرد يرزح تحت نظام فاشي يعيش بفكرة الفناء من أجل الأمة. 

السؤال الواجب طرحه هنا في علاقة بـ «الجيل الخطأ» أو «أنتيفا التونسية» هو: أين تونس من كل هذا؟ أي أين تونس من الفاشية؟ أين هو التفوّق المؤسِّس للفاشيّة؟ 

ليس لتونس تاريخ في الفاشية ولا حاضر تتوفّر فيه مقوّماتها. فلا تعصبٌّ قوميٌّ في تونس ولا فوقيّةٌ للجيش على الدولة (فالجيش أداةٌ في يد الفاشيّة)، ولتونس جسدٌ نقابيٌّ ومجتمعٌ مدني قويّان، وبكلمة: لا تتوفّر في تونس شروط قيام الفاشية. فلا يمينيّة عبير موسي ولا يمينيّة النهضة الإسلامية تمثّلان خطرًا فاشيًّا يفسّر وجود حركة مناهضة لهذا الخطر. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما جدوى الإصرار على استدعاء مصطلح الفاشية للمشهد السياسي التونسي؟ 

يندرج استدعاء هذا المصطلح ضمن المنافسة الأيديولوجية والسياسية بين الأطراف المتنافسة لا غير. ومن الضروري جدًّا عدم خلط الفاشية مع أشكال السلطويات الأخرى. فالفاشية، كما يشير عالم الاجتماع الإسباني خوان خوسيه لينتز «ظاهرة نادرةٌ نسبيًّا كونها مرتبطة بالشّمولية، وهذه بدورها بِنْتُ حقبة تاريخيةٍ معيّنةٍ نحن اليوم أبعد ما نكون عنها سواء من حيث الهيمنة الأيديولوجية لمفردات الليبرالية، من الديمقراطيّة التمثيليّة وحقوق الإنسان، أو من السياق الاقتصادي والسياسي العالمي الذي لم يعد ممكنا فيه ظهور دولة شمولية باستثناء تجارب مثل كوريا الشماليّة». لكن بعد عشر سنوات على الثورة، ظهرت بوادر خطيرة لعودة الدولة البوليسية، إضافة إلى سياسات التفقير المعتمدة من المنظومة الحاكمة وهذا ما لعله يفسر وجود حركة مناهضة للفاشية في تونس.

صحيح أنّ المبدأ الأساسي لـ «أنتيفا» هو الوقوف أمام الصعود الفاشي، فهي لا تأتي فقط لمعارضة الفاشيّة واليمينيّة الفاشيّة وبوادر الفاشية فحسب، بل تأتي أيضًا معارضة للسياسات الرأسمالية واستغلال العمال والفلاحين، ولـ «الجيل الخطأ» الحضور الوازن إلى جانب الفلاحين الصغار في قرية «أولاد جاب الله» التّابعة لولاية المهديّة ضدَّ بارونات الأعلاف ولوبيات توريد اللّحوم والحليب، وينادي «الجيل الخطأ» بسياسة زراعية إصلاحية تُعْلي السيادة الغذائية وتخدم جميع الفلاحين الصّغار. ونأمل أن يساهم «الجيل الخطأ» في الدفع بهذا المشروع.

إمكانية تعزيز الطرح الهويّاتي في تونس 

ولاحظنا أيضًا أنّ «الجيل الخطأ»، على غرار مجموعات مناهضة الفاشية في العالم، تعارض هيمنة الجماعة على الفرد وحريّاته، فهي تساند مجتمع الميم في مواجهته للجماعيّة، الصفة المميّزة لعدة مجتمعات ومنها مجتمعنا، والجماعيّة هي السبب المحرّك لمعاداة الفرديّة، فمجتمعنا هو كلٌّ واحد يتحرّك بشكل واحد، وعلى الفرد عندنا أن يذوب في الجماعة طوعًا أو قسرًا. وفي الحقيقة، لا يكون الذوبان في الجماعة طوعيًّا وإنْ كان يبدو كذلك ظاهريًّا، فالذوبان الناعم في الجماعة هو فعل قسري أيضًا. والجماعة هي المرجعية وهي الحامية، ومطالبة الفرد بفردانيته هي تهديد للجماعة «المتماسكة جدًّا»، ومن هنا، كان الرفض، رفض وجود الفرد ورفض مطالبته بفرديّته وتحقيق ذاته، ورفض امتلاكه لشخصيته الفردية. وكل مَن يطالب بفردانيّته يصوَّر على أنه عنصر ذاتيٌّ، انفصاليٌّ، خائن للجماعة، يهدِّد المصالح الاجتماعيّة العليا. وهو ذاتيٌّ انفصاليٌّ حتّى لو رفض مصادرة فردانيّته داخل العائلة فحسب. وكل مَن يطالب بالعيش بين الجماعة باختلافه يصير «الآخر»، الآخر المتآمر، والآخر المموَّل من الخارج، والآخر المتماهي مع الغرب الكافر، إلى آخره، ويُخرَج من الجماعة بانتهاج النبذ والعزل الاجتماعيّين. وإنساننا المختلف عن الجماعة لم يجد بعد مسافة الأمان التّي يحتمي فيها من ديكتاتوريّة الجماعة التّي رعاها النّظام الأبوي الخانق.

هذا النّظام يجرُّنا قسرًا، إناثًا وذكورًا، للانخراط في عمليّة التكيّف الاجتماعي التّي تجعل من الرجل ذكرًا حسب المقاييس والأوصاف السائدة والمهينة للذكورة، وتجعل من المرأة أنثى حسب المقاييس والأوصاف السائدة للأنوثة. وهذا التشكيل القسري والتّعليب جملةً داخل قوالب الذّكورة والأنوثة يبدأ منذ السنوات الأولى للطفولة، وكل من تضيق بهـ/ـا هذه القوالب ويحاول أو تحاول العيش خارجها بعيدًا عن هذا السلخ المؤلم، تقيّم محاولتهـ/ـا على أنّها خروج مؤسف عن «الأنوثة» و«الرجولة» و«سقوط مخز» في «الاسترجال أو «التخنث» وفي «الكفر»، ومن هنا يأتي الرفض لمن خرجوا عن هذه القوالب ويأتي رفض الوجود معهم في نفس المكان، فـ«شرف» الجماعة على المحك.

واليوم، وبعد أن استرجعت الجماعة شارعها، صارت تمارس بلطجة النّظام في الشّارع ضدَّ المختلفين عنها وتحديدًا ضدَّ النّاشطات والنّاشطين الكويريين، وكل من تراهـ/ـا خارجًا/خارجةً عنها. فالجماعة، تريد لمن لا يشبهها أن يوجّه غضبه إلى الدّاخل لا إلى الخارج وأن يختفي تمامًا من الشّارع. وهو اختفاء يريده حتّى شقٌّ لا بأس به من اليسار. فالجماعة تريد أن تحدِّد من يحقُّ له الوجود في الشارع ومن لا يحق له. وهذا ما كان يمارسه النّظام ضدَّها. الممارسات ذاتُها. علاقات القوّة ذاتُها. فأنظمة العنف والتّعنيف لا تنتج إلا علاقات القوّة والاستقواء. والجماعة بشقيّها، المُريد للتغيير والمتنائي عنه، لا ترى في الكويريين والكويريّات، أو في من خرجوا عنها أيًّا كانوا، أنّهم يتشاركون معها في أي مطلب من مطالبها، فالجماعة لا تستوعب أنّ المطلب الفردي لا يلغي المطلب الجماعي، وهي تُصوّر من يختلفون عنها أنّهم/ن لا يكترثون/يكترثن إلا بأنفسهم/ن فقط، في حين أن الشّارع حمّال هموم ومظالم يتّسع للجميع، تتقاطع فيه المطالب وتفترق. وهو بالتأكيد يتّسع لما نراه محليًّا ولما نراه يفتقد للمحليّة.

و«الجيل الخطأ» هو جزء من الحركة التقاطعيّة، والتقاطعيّة مصطلح مفاده أننا نتعرّض إلى أشكال متعدّدة من الاضطهاد التّي تتداخل وتتقاطع لإيصالنا لما نحن عليه من قهر وهدر رهيبين.. والتقاطعيّة التي يتبنّاها «الجيل الخطأ» قد تساهم قليلًا في الانفتاح على سياسيات الهويّة وعلى توسيع نظرتنا للاضطهاد متعدّد الأشكال وما يقابله من نضال تقاطعي. ووجود حركة يساريّة لا تخفي دعمها للأقليات الجندرية قد يسهم في انفتاح يسار الطبقة على كل ما هو هويّاتي. فالعدالة الثقافيّة لا تلغي العدالة الاجتماعيّة، وكون الهويّات عابرة للطّبقات فهذا لا ينفي النّضال من أجل الطبقة الفقيرة. 

تحدّث محسن بوعزيزي، الأستاذ في علم الاجتماع في الجامعة التونسية، سنة 2012 عن «القوّة الاجتماعية التّي ستعلن عن نفسها حين تنضج طبقتها الاجتماعيّة وتخلق لغتها وتعبيراتها إبداعيًّا وفكريًّا وأيديولوجيًّا ولغويًّا ورمزيًّا»، وقال عن هذه القوّة أنّها «لا زالت جنينيّة في رؤوس أطفالنا»، وبعد عشر سنوات على الثّورة بدأت هذه القوّة الاجتماعية، وليدة رحم الثورة، تكشف لنا عن نفسها من خلال شباب حركة «الجيل الخطأ» وغيرهم، وهذا الكشف يستدعي الإطراء، والنقد أيضًا. والنقد على خلاف ما يُصوّره البعض ليس تعبيرًا عن وصاية وأبويّة، بل هو تعبير صريح عن اهتمام بهذه القوّة الشبابية الرّافضة. وهو اهتمام فيه كشف عن هواجس قد يفتح التعبير عنها مساحة للتفكير والنقاش حول ما استجدَّ في شوارعنا.

Skip to content